الكوارث وكورونا والعودة إلى الزراعة: من الحرير إلى الحشيشة!

حسن الساحلي

الإثنين 2020/03/23
في الأزمات الاقتصادية الراهنة في لبنان، وصولاً إلى تفشي وباء كورونا المستجد، يستجد السؤال: متى نغيّر أساليب إنتاجنا واستهلاكنا، لنأكل ما نزرع وننتج؟ ومن التغيرات الحاسمة في تاريخ اللبنانيين، توقفهم عن استهلاك منتجاتهم الزراعية، واعتمادهم على الاستيراد من الخارج حصراً.

اقتصاد الحرير
يستورد لبنان اليوم ما يقارب 85 في المئة من غذائه، بينما لا يشكل القطاع الزراعي أكثر من 2.5 في المئة من ناتجه المحلي. ووصلنا إلى هذه الحال لأسباب عدة منها اعتماد الاقتصاد الزراعي طويلا على التصدير إلى الخارج، وتخلي أبناء الريف عن زراعة أراضهم لعجزهم عن المنافسة في السوق المحلية، إضافة إلى غياب السياسات التي ترفع يد التجار عن المزارعين.

يبدو اليوم من الصعب تغيير هذا الواقع، مع تجذر هذا النمط من الانتاج مع المعضلات البنيوية التي حولت القطاع الزراعي مرآة للصراعات والديناميات القائمة في البلاد.

لكن كيف وصلنا إلى هنا؟ ولماذا يصعب الإصلاح الزراعي في لبنان؟  

الأستاذ الجامعي والمستشار في التنمية الاقتصادية الزراعية كنج حمادة - في مداخلته لمؤتمر "سياق الزراعة في لبنان"، نظمته "مجموعة العمل الاقتصادي الاجتماعي" - يعود إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وتحديداً إلى لحظة بدء التحول في اقتصاد جبل لبنان، والذي لا نزال نقطف ثماره إلى اليوم.

يختصر تلك اللحظة ـ وفق حمادة - قرار محمد علي باشا فتح سوق جبل لبنان أمام الاستيراد والتصدير، والذي استكملت فصوله في عهد المتصرفية، وأدى إلى صعود نمط جديد من الانتاج يعتمد على زراعة التوت وتصدير الحرير إلى فرنسا. وهذا إدى إلى تراجع أصناف الزراعات المحلية (بسبب منافسة البضائع الأجنبية المستوردة، وتركيز المزارعين على زراعة التوت)، وتحول الاقتصاد اللبناني إلى اقتصاد تابع كليا إلى أوروبا (ينطبق هذا على السلطنة العثمانية عامة لاضطرارها إلى دفع فاتورة الحماية الأجنبية عقوداً احتكارية تجارية).

صعود البرجوازية
وترافق هذا التحول مع صعود فئات اجتماعية جديدة لم تكن حاضرة سابقا، مثل التجار والمصرفيين الذين اكتسبوا حضوراً سياسيا منافساً للأرستقراطية التقليدية. وفي الوقت نفسه تدهورت أوضاع أبناء الجبل غير المستفيدين من اقتصاد الحرير والاستيراد الخارجي، فاضطروا إلى الهجرة من جبل لبنان، وهذا ما سهّله النظام.

تحكّم التجار بالشروط التي يفترض على الفلاحين العمل ضمنها، والأصناف التي عليهم زراعتها. ومع تخلي الأهالي سريعاً عن عاداتهم السابقة، صَعُب على المجتمع التعامل مع التحديات الاقتصادية والأزمات التي يمكن أن تواجهه. ووفق حمادة عجز السكان عن تلبية احتياجاتهم الغذائية، عند حصول أول حصار اقتصادي في الحرب العالمية الأولى، ما أدى عملياً إلى المجاعة.  

بعد المجاعة انشغل مؤسسو دولة لبنان الكبير بموضوع الأمن الغذائي الذي أدىإلى ضم أقضية غنية بالأراضي الزراعية، هي البقاع وعكار والجنوب. لكن ذلك لم يغير شيئا لأن النمط الاقتصادي بقي على حاله. فبدلاً من أن يؤمن البقاع وعكار الغذاء للدولة الناشئة حديثا، دخلت الأقضية في النمط الاقتصادي المتبع في جبل لبنان وبيروت، وتخلى سكانها عن عاداتهم الزراعية المتبعة طوال قرون.

أقضية الإقطاع
في لحظة تأسيس دولة لبنان الكبير، فوجئ الانتداب بحجم الفرق في النمو بين جبل لبنان ومحيطه. فاقتصاد الحرير، رغم سلبياته على الزراعة المحلية، ساهم في نمو اجتماعي - اقتصادي - ثقافي. لكن على الرغم من وعي الانتداب إلى التفاوت بين جبل لبنان وبيروت من جهة، والأطراف الشمالية والبقاع والجنوب من جهة أخرى، فأنه (الإنتداب) ساهم في إبقاء "الأقضية الأربعة" على حالها. وذلك بدعمه الإقطاعيين فيها، والذين فرضوا نفوذهم على الفلاحين بالخواة والعنف، لقاء دعم الإقطاعيين التحاق الأطراف بالدولة الناشئة.

حصل هذا السيناريو في بلدان عديدة من العالم، وليس في لبنان وحده. في إيطاليا مثلا أظهرت الحكومة المركزية في الشمال دعماً للإقطاع في الجنوب (تحديدا مقاطعة سيسيليا)، طمعا بموافقتهم على وحدة البلاد عند تأسيس إيطاليا (استعملت الدولة المركزية أيضا الإقطاع الجنوبي لقمع حركات التحرر اليساري التي انتشرت في الجنوب).

المافيا والعشائر
ويلفت حمادة إلى أن كلمة مافيا ظهرت في سيسيليا، وكانت تعني في البداية الأشخاص الذين وظفهم الإقطاعيون لحراسة أراضيهم وفرض الخوة على الفلاحين، قبل أن يتغير معنى الكلمة لاحقا (يمكن أن يوازي هؤلاء في لبنان العشائر في البقاع الشمالي).

لم تتغير الحال في دولة الاستقلال اللبنانية، بل تدهورت مع تزيد نزوح الفلاحين إلى العاصمة، ودخول البقاع وعكار في نمط اقتصادي أدى إلى تدمير الزراعات المحلية.

... والتفاح
ويحدد حمادة اكتشاف النفط في الخليج، لحظة تحول أدت إلى تبني زراعة الفواكه للتصدير في مقابل التخلي عن الزراعات المحلية، مثل القمح والخضر.
بدأت بشري يومها بزراعة التفاح، والساحل بزراعة الحمضيات، بينما زرع البقاع الشمالي المشمش، وعرسال زرعت الكرز الذي دمر اقتصاد الماعز والرعي التاريخي والتضامني الذي كانت تمتلك المرأة فيه دوراً أساسيا، وفق حمادة.

منعطف الشهابية
وفي عهد فؤاد شهاب (1958 - 1964)، قررت الدولة للمرة الأولى التدخل لتحسين الوضع الزراعي، عبر سياسات لا تزال متبعة حتى اليوم (كانت مؤثرة في وقتها، لكنها لم تعد قادرة على مجاراة الواقع الحالي).
اعتمدت هذه السياسات على إنشاء صناديق ومؤسسات جديدة لا ترتبط بسلطة واحدة: مثلا مشروع الليطاني التابع لوزارة الطاقة، مديرية الحبوب والشمندر السكري التابعة لوزارة التجارة، مركز التعاونيات التابع لوزارة التخطيط، والمشروع الأخضر التابع لوزارة الزراعة، إضافة إلى مؤسسة الريجي التي اُصلِحت وأصبحت تابعة لوزارة المالية.

إقطاعات محدثة
أدت هذه المؤسسات إلى تضخم في كتلة الموطفين، ما عزز المحسوبيات في التوظيف. طبعا لا ننسى هنا أن السياسات الشهابية روّجت لبناء السدود أيضا التي لا نزال ندفع ثمنها حتى اليوم. وروجت لمفهوم "الحملات الإعلانية" التي تسبق القيام بأي مشروع كبير، على ما يحصل مع مشروع استخراج النفط من البحر اليوم.

أما بعد انتهاء الحرب، فرغم أن سياسات الحريري النيوليبرالية كانت تهدف إلى خلق نمو اقتصادي، لكنه ترافق مع لا مساواة وتعزيز للفروقات الطبقية. وكان الأخطر وفق حمادة، أن الدولة بعد انتهاء الحرب، توقفت عن أي تدخل في الشأن الزراعي، وسلمت سياساتها لآخرين قسموا لبنان إلى مناطق نفوذ مختلفة تتبع كل واحدة منها لزعيم سياسي أو حزب (مثلا جهاد البناء التي تنشط بدعم المزارعين في مناطق نفوذ حزب الله، أو مؤسسة رينيه معوض، أو الصفدي أو الحريري). وهذا إضافة إلى المؤسسات الدولية التي تنشط في التنمية المحلية مثل USAID، Fao، UNDP، وغيرها.

أدى هذا الواقع إلى جعل عملية تولي الدولة الإصلاح الزراعي مهمة شبه مستحيلة، لاصطدامها بقوى طائفية وكارتيلات تجارية. يقدم حمادة أمثلة عن مشاريع قوانين كان يفترض تطبيقها من لتحسين الوضع الزراعي في لبنان. لكن مجلس النواب منع تمريرها لأنها تؤذي هذا الطرف أو ذاك، مثل قانون حماية الإنتاج المحلي والتقليدي الذي فصّله السوريون على الواقع اللبناني، ولا يزال بدون تصديق منذ عام 2003. أو مشروع تعديل قانون التعاونيات الذي منعت حركة أمل تمريره (وهو يعود إلى المرحلة الشهابية).

تشريع الحشيشة
في الأزمة الاقتصادية الأخيرة، جرى الحديث كثيراً عن القطاع الزراعي والتوصيات التي قدمها "تقرير ماكنزي"، مثل إعادة الاعتبار للتصدير عبر زراعة فواكه الأفوكا والمانغا، وتشريع الحشيش للاستعمالات الطبية، إضافة إلى اقتراحين يمكن اعتبارهما إيجابيين: دعم المشاريع الصغيرة والعائلية، ودعم الانتقال التكنولوجي في السوق المحلي.

يرى حمادة في تشريع الحشيش للوظائف الطبية أن تنفيذه كـ State Monopole أو على نسق الدخان والريجي، مضر للبنان، لأنه لن يؤدي إلى توقف قطاع الزراعة غير القانونية، بما أن تجار المخدرات سيغرون المزارع بأسعار أعلى من التي تدفعها الدولة. وسوف يخلق التشريع تمييزاً بين من يملك رخصة ومن لا يملكها، من المزارعين. وهذا يؤدي إلى ظهور تناقضات بين مزارعين يشعرون بالأمان وآخرين يدخلون السجون. فتنجم عن ذلك صدامات تجدد العنف.

هل من حلول؟
أما عن الحلول، فيرى حمادة ضرورة وجود لوبي سياسي يمرر القوانين التي تدعم الانتاج المحلي، وتضبط دخول المنتجات التي يمكن انتاجها في لبنان، أو تزيد فرص العمل. وهو يؤكد أن توحيد الحركات البديلة يجب أن يحصل لخلق طرح سياسي عام، يواجه السلطة والمؤسسات الدولية والأحزاب، ويعزز فكرة المصلحة المشتركة. وهناك أيضاً ضرورة لخلق توازن بين السوق التجاري المفتوح (والزراعة للتصدير) وبين تدخل الدولة لمساعدة المزارعين غير القادرين على تحقيق أرباح، في سياسات تؤدي للنهوض بالريف وتعطي الأولوية للسوق المحلي.

ويضيف حمادة أن من الضروري حصول الانتقال التكنولوجي الذي تحدث عنه تقرير ماكنزي: "لأننا قادمين على تغيير كبير في القطاع الزراعي عاجلا ام آجلا عند حصول النمو في سوريا. وهو نمو سيؤدي إلى مغادرة جزء كبير من العمال السوريين، وارتفاع كلفة المنتجات التي تعتمد على العمالة الرخيصة، ما يعني انخفاضاً في القدرة التنافسية.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024