لا عودة إلى الوراء

عصام الجردي

الإثنين 2019/10/28

بعد أيام ثمانية على اندلاع الثورة الشعبية السلمية الحضارية الأولى في تاريخ لبنان، عابرة الطوائف والمناطق، أطلّ رئيس الجمهورية ميشال عون داعيًا الناس في الساحات والشوارع إلى لقاء لسماع مطالبهم ومناقشتها. أمّا ولائحة المطالب باتت أهزوجة تتكرر كل لحظة وعلى الهواء من كل المشاركين في هذه الثورة، من أعلى أكمة في لبنان إلى فقش الموج، وبلسان اللبنانيين في دول الانتشار اللبناني والمغتربات، نعتقد إنه كان من الأجدى أن يدعو الرئيس رئيسي الحكومة ومجلس النواب إلى لقاء مفتوح في بعبدا للاتفاق على رؤية وقرارات في حجم الحدث. أولها استقالة الحكومة. وقرار ببدء الاستشارات النيابية على قاعدة توجّه مضمون لتأليف حكومة من خارج أحزاب السلطة الراهنة تتبنى المطالب الشعبية.

الطوائف والدستور وسدنة النظام
الثورة تريد أيضًا تغيير النظام السياسي. أي تعديل الدستور وفي مقدمه قانون الانتخابات النيابية، بلا قيد طائفي ودائرة انتخابية واحدة. وخفض سن الاقتراع إلى ثمانية عشر. أي ما هو قانون يشبه الناس أنفسهم الذين اخترقوا الحاجز الطائفي، وعلى خارطة لبنان بأكمله التي كسرت الثورة الحواجز بين مناطقها. الزنّار البشري الرائع أمس من عكّار حتى صور يقول ذلك أيضًا. المنتشرون في بلاد الاغتراب في عواصم أوروبا والأميركتين وأفريقيا وأستراليا، وفي مدن عدة خارج عواصم تلك البلدان، هم جزء مهم جدًا من هذه الثورة. ويريدون المطالب نفسها هتفوا. وهم نُخب علمية وثقافية ومهنية، الوطن في حاجة ماسة إليها. كل اقتصادات العالم اليوم قائمة على المعرفة. والموارد البشرية حجر أساس في النمو والتنمية. حقهم البديهي أن يتسع لهم الوطن ولكفاياتهم. وحق الوطن استعادتهم. ولم يبرح معظمهم إيّاه إلاّ مكرهًا. عشنا عقودًا من الخوف عندما يتحدث أحد عن تعديل الدستور. لأن الطوائف كانت تخاف من نفسها. يغذي ذلك سدنة نظام سياسي فاشل وفاسد. ميزان القوى السياسي لعُصب الطوائف وممثليهم في السلطة، الذي اعتاش على استنصار الخارج لتحقيق مكاسب سياسية ظرفية، واعادة توزيع الحصص السياسية والصلاحيات الدستورية سقط اليوم. أو بات اللبنانيون من النُخب والطبقة المتوسطة التي انحدرت لتأتلف مع عدد كبير من اللبنانيين يزداد كل سنة على حافة خطي الفقر المدقع والمطلق، مستعدين للحوار العلمي والحضاري على دستور جديد ونظام سياسي جديد، بنموذج اقتصادي منفتح ومنتج، لازمته عدالة اجتماعية، تضمن توزيع الثروة من خلال نظام ضريبي عادل وفاعل وموحد.

التغيير النظيف
اللبنانيون الموجودون في شوارع كل لبنان ومناطقه منذ اثني عشر يومًا بلا كلل أو ملل، قادرون على تحقيق هذا الحلم. وقادرون على التغيير النظيف نحو الدولة العَلمانية المدنية. هؤلاء أكبر بكثير من تجمعي 14 آذار في ساحة الشهداء و8 آذار في ساحة رياض الصلح في 2005 وبعده. في ذلك الوقت حشدت الأحزاب المعنية كل جمهورها من كل المناطق. جمهور اليوم يخرج في كل المدن ومعظم القرى على امتداد لبنان في وقت واحد، ولا يهمد اثني عشر يومًا. حتى في ساحات العاصمة هناك أكثر من تجمع.

لقد انكسرت الحواجز الآن. بات الداخل هو المقرر مرة أولى منذ دولة لبنان الكبير 1920. لذلك هي ثورة التي نشهد بكل المعاني. وأهم ما فيها سلميتها وحضارتها. هذا ما يرعب سدنة النظام. ومن يستنصرون بالخارج، ويستنصرونه على وطنهم وناسهم وشعبهم. كنا نعلم أن الطابور الخامس جاهز دومًا لإجهاض الثورة. بدا ذلك في اليوم الأول 17 تشرين الأول الجاري حين عمد مخربون إلى الاعتداء على أملاك عامة في شارع رياض الصلح. كان العدد قليلًا. وبعضهم ملثمًا. وفي متناول قوى الأمن. لم يُعتقلوا. هكذا حصل في حَراك 2015. كل من كانوا يستفزون قوى الأمن ويتعمدون الاحتكاك بها أفلتوا من العقاب. وقع فيه ناشطون راقون بلا أقنعة. الناس في الشوارع الآن ينظفونها و"يفرزون النفايات من المصدر"! الطابور الخامس سقط حكمًا وسط الأمواج البشرية. لم تتوقف محاولات التشويه. "مال السفارت والولايات المتحدة وأوروبا". لم يبق إلاّ حزب أبيض أزرق الصهيوني! لكن لماذا يريد هؤلاء الشرفاء الثوريون المال؟ هل انتقل المزاد العلني سوزبي من لندن إلى ساحتي رياض الصلح والشهداء لبيع لوحة الموناليزا؟ لا. الناس باتوا يعرفون جيدًا من يورّد المال، ويرتبط بدول من أحزاب وتنظيمات ومراكز "بحوث استراتيجية واعلامية" وغيرها من الشلل التابعة.

مربكٌ "حزب الله"
ويحدثوننا عن فراغ خطر في السلطة لو استقالت الحكومة. ليست الثورة الشعبية هي التي كشفت أزمة النظام السياسي فحسب. بل النظام نفسه هو من كشف تلك الأزمة. "حزب الله" بقي خارج الفساد المستمدة جذوره من ميليشيات الحرب الأهلية. لكنه يحمي حكومة شريك فيها ويتهمها بالفساد ويعارض استقالتها. ويضع جمهوره في مواجهة ثورة شعبية كان يجب أن يكون في صلبها. ويتهم رئيس الحكومة بالأمركة والأوربة. وواشنطن وباريس وبرلين تتماهى مع "حزب الله" ضد استقالة الحكومة! استقالة الحكومة الحالية لن تؤدي إلى شغور طالما الدستور يتيح تصريف الأعمال. وهي موجودة الآن ولا تقوم بواجباتها لا في المعنى الواسع ولا في المعنى الضيق. نعلم أن الحزب لا يريد أي تغيير في الستاتيكو السياسي في الوقت الحاضر يعكر صفو السيطرة على قرار الدولة اللبنانية خصوصًا في الوضع الإقليمي والضغوط على طهران. لكن كل ذلك لا يسوغ أن يقف هذا الموقف المعادي من الثورة.

لم نسمع خطابًا لأمين عام "حزب الله" السيد حسن نصرالله ضعيف الحجّية كما خطابه الأخير. خصوصًا في استنتاجاته عن احتمال "حرب أهلية وانقسام الجيش اللبناني". هذا كلام خطر. أخطر ما فيه لو كان تعبيرًا عن موقف رئيس الجمهورية الذي يتبادل وإيّاه الوفاء. أو لدعم "التيار الوطني الحرّ" ونهجه. أو فقط لإجهاض الثورة الشعبية. الناس قالوا كلمتهم ولا عودة لحرب أهلية. السلم والسلام يطبعان الثورة. ولا يمتلكون عدة العسكرة والحرب. أمّا الجيش اللبناني المطلوب منه التكفير عن مثالب النظام السياسي وعقود الفساد لقمع الناس، لا يمكن أن يكرر مشهد الانقسام في مرحلة الحرب الأهلية. الإنقسام الطائفي هو الذي قسّمه. الثورة بدّلت الواقع. والجيش يحتضن الشعب، والشعب يبادله وفاءً بوفاء. هذا كان من إنجازات الثورة. ولا عودة إلى الوراء.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024