سقوط النظام والنموذج معًا

عصام الجردي

الجمعة 2019/11/08

بلغنا القاع الآن. هي الساعة السوداء أزُفت بلا إعلان. كل ما حولنا يقول ذلك. الثقة المفقودة لم يعد ممكنًا استعادتها مستدامة. لا بنفحنا مساعدات وقروضًا، ولا بالحديث عن تعهدات مؤتمر سيدر.

لم يكن مفاجئًا سقوط المنظومتين معًا. السياسية والاقتصادية. بل كان ذلك منتظرًا بالكيمياء السياسية وبتغول النظام الأوليغارشي. ليس الثورة من تريد إسقاط النظام. النظام نفسه توقف عن العمل. لكن سدنته ما زالوا يتعنترون ويكابرون. قوى الثورة ليست جاهزة لتغيير النظام بعد. لم تصُغ برنامجًا محددًا. رفعت مطالب باسم الشعب اللبناني. ولم تضع إطارًا مؤسسيًا دائمًا للثورة بعد. ستفعل ذلك وتجهز، بعدما كسرت الطوق الطائفي والمذهبي. وفكّت العزلة بين كانتونات الطوائف والمذاهب التي يسمونها عندنا أقضية ومحافظات. النظام ساقط؟ بكل تأكيد. لا إعمالٌ للدستور ولا للقوانين. العالم كله يتفرّج علينا منذ استقالة الحكومة. وكان يمكن أن نلطّف من هول الأزمة المالية والنقدية المخيفة، لو تولّى رئيس الجمهورية الاعلان فورًا عن استشارات نيابية لتكليف من يشكل الحكومة البديلة. توقعنا هذا السيناريو بعد استقالة الحكومة. يا جماعة، البلد ينهار، وذاهبون إلى سيناريو الخراب. أبدًا. والحجّة الباهتة، أن الدستور لا يحدد مهلة معينة إلزامية لرئيس الجمهورية كي يبدأ الاستشارات النيابية لتكليف من يشكل الحكومة. ينظّر لهذا الشأن جماعة "العهد القوي" و"الحلف الممانع" عن خلاص البلد وسلامته. الرئيس ليس ملزمًا بالدستور. لكن أليس ملزمًا بوقف الانهيار والفوضى؟ يبدو أن ترف الوقت هي السمة الفضلى. عامان ونصف عام لانتخاب الرئيس. ومجلس نواب لا يعقد جلسة إلاّ لانتخاب "الرئيس القوي". ثمانية شهور لتأليف حكومة. يعني ذلك أن النظام بأعلى مؤسساته المؤتمنة على الدستور تعانده لحساب التسويات التي تتقدم على الدستور بعنوان "حكومات الوفاق الوطني". تكرار هذا المشهد، توكيد على فشل النظام وسقوطه في الجوهر وبقائه في الشكل. التسويات التي عقدت قبل انتخاب رئيس الجمهورية وشملت أطراف السلطة بلا استثناء، وفي حكومتين بعد انتخاب الرئيس، كانت بلا أسس سياسية. وإنما عقدت على اقتسام السلطة.

ألغت التسويات المذكورة دور مجلس النواب في الرقابة والمساءلة والمحاسبة، بعد أن ألغت المعارضة في مجلس النواب. خلا نواب قلائل أفراد. هذا توكيد على إلغاء صفة النظام البرلماني الديموقراطي كما مقدمة الدستور. لذلك، استبدّ إهدار المال والسرقة بسلطان بلا رقيب ولا حسيب. حتى إذا تطلّع اللبنانيون إلى القضاء الإداري وقضاء المحاسبة والتدقيق وإلى القضاء الجزائي لتصويب الأمور، ضلّوا مقصدهم في قضاء تعينه السلطة السياسية وتملي عليه. خلافًا للدستور. يعني أن نظامًا بأكمله مع مؤسساته بات عاطلًا من العمل.

المنعطف
كان من الطبيعي أن يتداعى النموذج الاقتصادي بالسقم، لنظام سياسي فاشل فقد مسوغ وجوده، وما عاد قادرًا على الدفاع عن نفسه. ولطالما أكدنا على ما نعتبره حقيقة تغذي النظام السياسي على النموذج الاقتصادي وبالعكس لاستدامة الإثنين معًا. كل الأزمات الاقتصادية الشديدة الأثر تبدأ بالقطاع المالي وتنسحب على النقد والاقتصاد. منذ أزمة الكساد الكبير في الولايات المتحدة 1929 – 1931 التي سبقت الحرب العالمية الثانية. وأزمة 2008. فما بالك بنظام ريوع لا جذر له في الاقتصاد، ويتعيش على التدفقات الخارجية الظرفية. الدول التي واجهت أزمات مالية، تملك من الموارد والمقومات الاقتصادية ومنتجات التقانة وتكنولوجيا العصر، ما يساعدها على تجاوز أزماتها. لكن لتلك الدول ما هو أهم من الموارد ومصادر الثروة. دستور وقانون وقضاء ومؤسسات سلطة مستدامة بلا شغور. لا تتوقف عن العمل وتحترب على المنافع. ليس لدينا شيء من ذلك. إنكشفنا يوم بدأت التدفقات النقدية بالنضوب وانقلب ميزان المدفوعات عجزًا مستدامًا منذ 2011، في بلد يعتمد على ربط العملة بالدولار الأميركي وتثبيت سعر صرفها منذ أكثر عقدين. وكلاهما يستحيل من دون ذخيرة واحتياط صافٍ من العملة نفسها. وفي كنف عجز مالي متأصل، واتساع للدين العام بالعملة الوطنية والعملات الأجنبية. وبأسرع من معدلات النمو.

هنا كان منعطف الأزمة الأساسي ونقطة ارتكازها. لم نتلقفّ الرسالة. أوغلنا في النهج نفسه. عجز مالي + دين عام بالليرة والعملات + نمو بطيء بلغ الركود والانكماش. وكان أخطر حلقات الأزمة زجّ مصرف لبنان في صلب تمويل الدولة واستنزاف احتياطاته الحقيقية. هنا تكمن الخطيئة الكبرى بقبول حاكم مصرف لبنان رياض سلامة مهمة ليست موكولة إليه في الأصل. لا اقتصاديًا ولا بموجب قانون النقد والتسليف. وفي قبول المصارف أن تستمر في تمويل دولة ولو لقاء فوائد مرتفعة، رغم إدراكها عداء الدولة للاصلاح وعمق فساد النظام السياسي. مع عدم الاستقرار السياسي والمؤسسي في الداخل، والمخاطر الجيوسياسية الإقليمية، وتفشي الفقر والبطالة، بات التخلي عن تثبيت سعر الصرف شديد الخطورة. حتى عندما بدأت الهندسات المالية لاستقطاب العملات الأجنبية إلى مصرف لبنان، وتعقيم موارد المصارف الكبيرة لديه، اشتعلت معدلات الفوائد وترسّخ التباطؤ والركود والبطالة. وتراجع التصنيف السيادي. وأصبح البلد ومصرف لبنان والمصارف معًا، في سفينة بلا أشرعة ولا نقطة وصول. وكل ذلك، لم يحرّك من أعصاب السلطة عصبًا ولا غيّر نهجًا. ربما هنا تربض المؤامرة الحقيقية على الشعب والوطن. أو الجنون بذاته.

الخوف الكبير
الكل كان يعلم أن الدولة تعتاش على ودائع الناس التي تقترضها من المصارف. وحذّرنا منذ سنوات لهذا الأمر، بمفردات الكناية والاستعارة. وصلنا الآن إلى المعلوم. المصارف التي التزمت بتعهداتها لعملائها في كل الظروف، وبمسؤوليتها الإدارية والائتمانية، لديها من الودائع أكثر من ثلاثة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي. ولكي توفّي الطلب على السحوبات لاسيما بالعملات الأجنبية التي تمثل نحو 73 في المئة من الودائع، تطلب السيولة من توظيفاتها المعقّمة في مصرف لبنان. والمصرف يواجه سعر الصرف وسداد ديون الدولة الخارجية. ويطلب إلى المصارف زيادة ترسملها بواقع 20 في المئة (نحو 4 مليارات دولار أميركي) حتى نهاية 2020. وهو أمر مشكوك فيه في الظروف الحالية. وعلى ما فهمنا أن سلامة تبلغ جوابًا سالبًا خلال لقاء مع بعض أركان جمعية المصارف.

هناك اتجاه نحو تقييد حرية التحويلات المالية إلى الخارج. أي أن النموذج الاقتصادي توقف هو الآخر مع النظام السياسي عن العمل. والإجراء إذا تمّ بتشريع، يكون النموذج الاقتصادي قد انتحر. ولنا في ذلك ملحوظتان. أمّا الأولى، فمن يملك الكثير من الأوليغارشيا حوّل أمواله كما أشرنا في مقالة سابقة. بقيت الودائع الصغيرة والمتوسطة للجمهور الأوسع من المودعين وقرش الأرملة. وأمّا الثانية، فالإجراء سيوصد الأبواب نهائيًا في وجه التحويلات إلى لبنان وليس العكس. هناك الكثير من الإجراءات قيد البحث. وكلها ليست وردية.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024