دولة لبنان الفاشلة؟

حسن الحاف

الثلاثاء 2014/06/10

ما جرى اليوم في مجلس النواب ليس مسرحية. هو واقعي بكل ما للكلمة من معنى. فإتهام رئيس مجلس النواب نبيه برّي فريق الرابع عشر من آذار بأنه قبل بالضريبة على الفوائد والمصارف ليعطّلها لاحقاً، صحيح مئة في المئة. كما أن إتهام فريق الرابع عشر من آذار برّي ومن خلفه حزب الله، بأنهم إنما يؤيدون إقرار سلسلة الرتب والرواتب من باب "المزايدة الشعبوية" دقيق جداً أيضاً. كلا الفريقين يصف بدقة عزّ نظيرها مواقف خصمه، وكلاهما يتلاعب بالناس ومصالحها ومصائرها، كما لو انهم مجرّد أوراق تفاوضية، دورها الجوهري توسيع هامش المناورة لهذا الفريق أو ذاك.
فقد دخل بري قاعة الهيئة العامة لمجلس النواب على الرغم من عدم توافر النصاب. بعدها توجّه للنواب الحاضرين والغائبين قائلاً: "أنا أعلم أنه لا يوجد نصاب الآن، والحقيقة أصبحنا نسمع كلاماً، هذا الكلام اعتقد أنه لا بد من أن نتوقف عنده قليلاً. الذي يحصل اليوم لا يخدم انتخاب فخامة رئيس الجمهورية اللبنانية"، مضيفاً "ما لا يدرك كله لا يترك جله".
ثم أضاف بري مسايراً نظرة "تيار المستقبل" تماماً في موضوع السلسلة: "نعم لقد تعهدت واتعهد أمام الشعب اللبناني وأمامكم أنه لا يمكن أن أوافق على سلسلة لا يكون فيها توازن دقيق، على الليرة وعلى الدولار"، ثم سرد بالتفصيل المقايضات التي جرت في الجلسة الأخيرة للهيئة العامة، خصوصاً في ما يخص الضرائب. وخلص أخيراً إلى القول أنه بعدما تيقّن الجميع من أن السلسلة على طريق الإقرار، "عادت حليمة لعادتها القديمة وصاروا يقولون حرصاً على رئاسة الجمهورية".
هكذا، إذن، حدّد برّي طبيعة ما يجري. لقد أصبحت السلسلة علناً جزءاً من الصراع الدائر اليوم محلياً وإقليمياً ودولياً على إختيار رئيس مقبول من كل الأفرقاء. فوق ذلك، فإن الكباش الحاصل اليوم حول إستمرار عمل مجلس النواب من عدمه، يضمر سعياً من قبل فريق 14 آذار بمعية العونيين لتعطيل موقع رئاسة مجلس النواب "الشيعي" في مقابل تعطيل موقع رئاسة الجمهورية "الماروني". ولا شيء يضمن أن لا ينسحب هذا التعطيل عمّا قريب على موقع رئاسة الحكومة "السنّي" أيضاً. فتغدو قاعدة عمل المؤسسات، إذ ذاك، إمّا أن تعمل المواقع الطائفية كافة على قدم وساق مع بعضها بعضاً، أو ان تتعطّل كلها.
طبعاً، في الحالات كافة، ما يتعطّل في الجوهر هو مصالح الناس عموماً. 
بعد جلسة النصاب المفقود، كرّت سبحة المؤتمرات الصحافية. فقد عقد وزير التربية إلياس بو صعب مؤتمراً صحافياً أعلن فيه انه "غير مستعد لتأجيل الامتحانات الرسمية ولو لمدة ربع ساعة"، مؤكداً ان "الإمتحانات ستبدأ يوم الخميس المقبل"، وذلك على الرغم من ان برّي ختم كلمته في الهيئة العام متوجهاً إليه بالقول: "أقول لمعالي وزير التربية انتبهوا لا تستطيعوا أن تجروا امتحانات بهذا الشكل، وانتبهوا أيضا رجاء ألا نخرب البلد ونوصله الى نقطة اللارجوع".
على ان بو صعب، ومن بعده كلام نواب تكتل التغيير والإصلاح إبراهيم كنعان وحكمت ديب ونبيل نقولا عن ضرورة إجراء الإمتحانات في موعدها، وعن التوازن بين الإيرادات والنفقات، جاء ليؤكد أن قرار التكتّل، طالما أن إمكان إنتخاب رئيسه ميشال عون رئيساً للجمهورية لا يزال قائماً، هو أن يضع قدماً في حقل 14 آذار، وقدماً ثانية في حقل بري وحزب الله. وهنا مأزق هيئة التنسيق الأكبر. فموقف الفريق العوني يتماهى تماماً مع موقف تيار المستقبل، والذي اعلنه النائب احمد فتفت بعد إنفضاض عقد الجلسة التي لم تعقد. إذ طالب الأخير وزير التربية بـ"إجراء الإمتحانات، كما نطالب الأساتذة بالشيء ذاته لأنه لا يجوز للطلاب ان يؤخذوا رهينة سياسية باي شكل من الأشكال". وأشار إلى أنه "اذا كانت السلسلة ستقر بالأرقام المعروضة فهي تدمير للفقراء والمساكين وأصحاب الحاجة ورفع للأقساط المدرسية ورفع للفوائد بالمصارف على الناس". ثم قدّم النائبان غازي يوسف وجمال الجرّاح مطالعة رقمية، هيَ هيَ المطالعة التهويلية التي عوّد المستقبل اللبنانيين عليها. وذلك كلما تعلّق الأمر بإتخاذ تدابير قد تؤدي إلى نقل بعض المداخيل الزهيدة من خانة أرباح قيادات "المستقبل" إلى خانة أجور المواطنين.
والحال أن موقف وزير المال علي حسن خليل لم يكن أقل دلالة في ما يخص طبيعة الاشتباك الحاصل اليوم حول السلسلة. فقد أبدى إستعداده "للسير بكل الإجراءات الإصلاحية وإعادة طرحها بالكامل مع التعديلات اللازمة"، التي تضمنها آخر مشروع لإقرار السلسلة في العام 1998. بتعبير أدق، أبدى إستعداده لتطبيق الأجندة النيوليبرالية التي كان تيار المستقبل قد أعدها آنذاك بالتعاون مع المؤسسات الدولية، كون إدارة الإقتصاد كانت يومذاك، من ضمن تقسيم الأدوار القائم، من حصة فريق الراحل رفيق الحريري. وذلك في مقابل، تراجع فريق 14 آذار عن مقاطعتهم لمجلس النواب، ما سيضعف برّي كثيراً في المعادلتين الوطنية  والشيعية الداخلية على السواء. ذاك ان تغوّل حزب الله خلال العقد الأخير، وإنتزاعه هامشاً سياسياً كبيراً بفضل قدراته الأمنية والعسكرية المهولة، حشر دور برّي حصراً في مجلس النواب. ما يعني ان إقفال المجلس اليوم، يعادل شطب برّي من معادلة الفعل السياسي.


وضع هيئة التنسيق النقابية أثناء إعتصامها الذي نفذته لليوم الثاني على التوالي في وزارة التربية لم يكن أحسن حالاً. فقد وجدت نفسها وبعد ثلاث سنوات من النضال المرير وجهاً لوجه مع طبقة سياسية لا يهمّها شيئاً غير مصالحها الخاصة. وإذا كان خطابها حول عدم شرعية إجراء الإمتحانات الرسمية من دون موافقة هيئة التنسيق النقابية متقدماً جداً بمقاييس بلد كلبنان، إلا ان عدم إجرائها تقييماً موضوعياً لمسار السنوات الثلاث الأخيرة، ولأدائها خلالها، ولرهاناتها فيها، يضعها أمام إمتحان عسير في حال نجحت وزارة التربية في إجراء الإمتحانات بعد غد الخميس. إذ ذاك، تكون الهيئة لعبت ورقتها الأقوى، من دون دراسة كافية ووافية، وتكون عرّضت حراكها النقابي الرائد لإختبارات قاسية كانت في غنى عنها.
أخيراً لا يستطيع المرء ان يمرّ على ملف تعطيل سلسلة الرتب والرواتب من دون أن يأتي على ذكر بطل هذا التعطيل، دولة الرئيس فؤاد السنيورة. فقد أكد السنيورة بعد إجتماع كتلة المستقبل أمس الإثنين انه "لن يوافق على دفع لبنان نحو الافلاس وتحويله الى دولة فاشلة".
الحق يقال ان السلسلة لن تحوّل لبنان إلى دولة فاشلة، بقدر ما أنها كشفت أن في لبنان طبقة سياسية فاشلة. قبل السلسلة وبعدها أيضاً!

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024