إطار مؤسسي دائم للثورة

عصام الجردي

الجمعة 2019/11/01

أعظم ما أسفرت عنه ثورة الشعب في لبنان هو أنها وجدت دواء للسرطان، الذي عجز عنه العقل البشري حتى الساعة. الطائفية سرطان لبنان. يضرب بعد نحو مئة عام على دولة لبنان الكبير. وزُهاء ستة وسبعين عامًا على دولة الاستقلال. هذا الداء العضال حال دون قيام دولة صلبة مكتملة الأركان، وعادلة وعصرية. في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والتاريخ. وفي الجغرافيا أيضًا، لبلد استحال عليه حتى الساعة مجرد ترسيم حدوده.

الهدف والبرنامج
نعلم أن مسار الإستشفاء الناجز من هذا الداء طويل. هكذا هو المسار السياسي. نقترب منه بمقدار ما نحصّن الثورة مسارًا مستمرًا للبناء عليه. هذا أهم ما أنجزته ثورة لبنان والشعب. كل المطالب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية هي دون ذلك أهمية، متى علمنا أن النظام السياسي هو  الذي يستولد الأزمات المالية والاقتصادية والاجتماعية. لذلك، فللثورة أن تحدد أهدافها. وتضع برنامجها المطلبي الاقتصادي والاجتماعي. وتحدد موقفها السياسي على أساس قاعدة  التزام البرنامج. وتصوغ خططًا لتحركها تدرجًا تبعًا للتطورات. يبقى قانون جديد للانتخابات خارج القيد الطائفي على أساس النسبية والدائرة الواحدة أو المحافظة قضية مهمة على المستوى السياسي.

الإطار التنظيمي يفترض أن يشبه الثورة وبنيتها. الطابع العفوي للثورة واستقطابها جماهير واسعة من اللبنانيين، ليسوا بالضرورة من خلفية فكرية واحدة أو متجانسة، يفترضان إطارًا تنظيميًا مرنًا لتحقيق الأهداف والبرنامج. وللحفاظ على هذا التنوع الذي كان له الأثر الكبير في مدّ الثورة بزخمها، وسلميتها، وتوحد على شعارات الثورة. كلاهما البرنامج والإطار التنظيمي لا يفترض أن يعبثا بهذه الميزة ويعرضان الثورة للتشتت.

حائرون سدنة السلطة السياسية ومنظروها في إسباغ ألقاب على الثورة. "حَراك. تحرك. انتفاضة" وما شبِه. لا. هي ثورة حقيقية بكل أركانها. وسلمية حضارية وعلى تنوع. أيقظت العبد النائم.  من غيفارا نقتبس: "يقولون اذا رأيت عبدا نائمًا لا توقظه فيحلم بالحرية. وأقول إذا رأيت عبدًا نائمًا أيقظته وحدّثته عن الحرية". وعن جان جاك روسو: "نشأت سلطة تحكم ومحكوم يطيع. ونشأ بينهما عقد اجتماعي يفرض بأن يقوم كل منهما بواجبه. فإذا أخلَّ فريق بواجبه، حقّ للآخر فكّ العقد والثورة". محددات ثورة الشعب اللبناني واضحة ولها جذور قوية. اولًا لأن لها قضية إنسانية واقتصادية واجتماعية. وثانيًا لأن الشعب ثار لتحقيق أهداف الثورة. ولإحداث تغيير جذري في المجتمع.

لم تتوقف محاولات السلطة وأحزابها لإجهاض التحرك. مشكلة هؤلاء أن الطابور الخامس ما عاد ينفع. بحر المدّ الشعبي جرف "النهر الجارف وقلب الطاولة" على أخرق استمرأ السلطة بساعد حليفه. وكان الاعتقاد بأن القمع كفيلٌ بإنهاء "الشغب". كان المهاتما غاندي الذي قاد "ثورة الملح" ضد الاستعمار البريطاني عام 1930 يقول، "لم أكن أرغب في تعلم الشطرنج لسبب بسيط. لإني لا أريد أن أقتل جيشي ليحي الملك". كانت ثورته سلمية خالصة، اندلعت بضريبة فرضتها بريطانيا على سعر الملح. وأدت إلى الاستقلال عن "صاحبة الجلالة". لم تكن الثورة مسلحة. ولا غاندي ترك سلاحه ليضحّى بجنده. كرِه لعبة الشطرنج. رحل فخلّده التاريخ قائدًا عظيمًا زاهدًا في السلطة والألقاب. وترك لأترابه من حزب المؤتمر أن يحكموا الهند عقودًا على سمعته وثقة الشعب به.

عندنا، ولفرط الغرور وعنتريات سخيفة تبعث على الغثيان، وتستخفّ بعقول الناس ووجعهم، اعتقدت السلطة إنها قادرة على استخدام الجيش والقوى الأمنية لقمع الناس. وأداة لغسل فسادها وتسلطها على شعب أرقى منها، وأعلم وأَثقف وأشرف. وكان ذلك التوجه هو المؤامرة بذاتها التي يتحدثون عنها ليل نهار وينسبونها للشعب. فبانت المؤامرة والمتآمر. وإذ قام الجيش والقوى الأمنية بما تفترضه الظروف للقيام به، لم يتعظوا من دروس التاريخ. ولا من مشهد ذلك الجندي الذي فوجئ بوالدته تتظاهر في الساحات فانحنى وطبع قبلة على وجنتيها. وقبله بمشهد دموع جنود في ساحة الزوق. آخرون التقوا بأبنائهم وبناتهم وأشقائهم. مع ذلك لم تستخلص السلطة وسدنتها عِبرًا من الواقع ولا دروسًا من التاريخ.

كان يمكن لـ"حزب الله" ولتيار رئيس الجمهورية أن يختارا ساحتيهما أو ساحة مشتركة لتجميع الناس. لكن على أي قضية يجمعونهم. الثورة الآن بلا قائد. لكن لها قضية. بعيدًا من علاقة الحزب بطهران ومشروعها الاقليمي، لم يعد له قضية بعد التحرير سوى المشروع نفسه. لائحة الهموم المعيشية والملفات الاقتصادية والمالية خارج اهتماماته أصلاً. خطابه الجِدّي إقليمي. ولا علاقة للبنان به. خلا ذلك فمن لزوم مائدة السياسة البلدية ليس إلّا. التيار يريد سلطة. بلا فكر سياسي ولا جذور. وصل إلى رئاسة الجمهوية بساعد "حزب الله". جبران "استحلى اللعبة".  رشّحه الرئيس فوعده الحزب بها. وعبثا يقتنع الحزب بـ"لعبة أخرى يقدمها له إذا المسألة شبّ واستحلى"!

خرق الدستور مستمر!
قدّم سعد الحريري استقالته إلى رئيس الجمورية ميشال عون. لم يبدأ استشارات عاجلة وملحّة تتطلبها الظروف لمعرفة الخلف. لأن قوى السلطة تريد الاتفاق على اسم الرئيس المكلف وشكل الحكومة ونوعيتها وأسماء الوزراء سلفًا بالتوافق. أي المفردة التي بات استخدامها كناية واستعارة لتوزيع الحصص بين قوى السلطة من جديد، وخلافًا للدستور الذي يقول بالمناصفة بين المسيحيين والمسلمين فحسب. فإذا اتُفق على الحصص نبت شكل آخر من الفساد السياسي. أي وزارة سيادية لهذا الفريق أو ذاك؟ وخلافًا للدستور. فإذا اتُفق على الوزارة، أي وزير لهذه الوزارة أو تلك؟ فاذا اتُفق على كل ذلك، ضمنت الحكومة ثقة مجلس النواب سلفًا على بيان وزاري مستنسخ من بيانات سابقة لا ينفّذ منها إلاّ القليل. يفلت الوزراء على وزاراتهم. يمارسون روزنامتهم الخاصة ولا نتقدم خطوة إلى الأمام للخروج من نفق البلد والمجتمع. الموازنة والعجز والدين والنقد ليست مشكلات ولا تحديات. فـ"الوقت موفور. والحقّ على الشعب الذي يحتل الساحات، ويقطع الطرقات"!

الثورة كرٌ وفرٌ. نشدد على الإطار التنظيمي لهيئة دائمة للثورة. الثوّار أيضًأ يستريحون للتفكير بعقل بارد وقلب  حار على ما قال يومًا "القسّ البورجوازي" كاميليو توريز، الذي ألهم في ستينات القرن الماضي ثورة التوباماروس في أميركا اللاتينية وراح شهيدها. ما زال الكثير ينقص لاكتمال الثورة ونجاح مسارها. الندوات والحوارات في الجامعات والثانويات والأندية والساحات العامة أيضًا. والمزيد من التصاق الثوّار بالناس. النُخب موفورة. والشعب شجاع.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024