"محتكرو الفِهم" يصوّبون على المجلس الاقتصادي الاجتماعي

خضر حسان

الخميس 2019/05/09
أُصيبَت البلاد وسكّانها بحمّى التقشّف. والسياسيون أصابتهم الحمّى بدرجة أعلى، سمّيَت بالموازنة التقشّفية، وعمادها برأي هؤلاء، عصر النفقات العامة. 

يصحّ التقشف إذا ما إقترن بأسس علمية، لكن الواقع يُفضي إلى التقتير والعصر على حساب المواطنين وبعض المجالس والإدارات. والخطوة غير عشوائية، بل مضبوطة بخطوط حمراء، من شمالها الأملاك العامة، ومن جنوبها أرباح المصارف، وعلى شرقها التهرّب الضريبي والجمركي، وعلى غربها التوظيف السياسي. وغلافها الجامع هو الهدر والفساد.

تخمة مجالس وإدارات
يتفرّع من عنوان التوظيف السياسي عنوان فرعي، اسمه المجالس والإدارات والوزارات واللجان.. وما إلى ذلك. واختصاراً للتعقيدات وكثرة الأمثلة، يمكن انتقاء المجلس الاقتصادي الاجتماعي للتدليل على منهج السلطة في التعاطي مع هيكلية الدولة وأموالها.

قيل الكثير في هذا المجلس، الذي قام حقاً من بين الأموات في العام 2017، بعد 15 عاماً من التعطيل بمشيئة سياسية. وتشكّل مكتب المجلس بالتزكية، بالمشيئة السياسية نفسها، ليكون حسب ما قاله رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري، يومها، "مساحة للتفكير والحوار بين فئات المجتمع، وعلى القوى السياسية أن تستمع إلى آرائه". لكن تلك القوى لم تسمع شيئاً، مع أن عدداً من وزرائها كانوا حاضرين في الصف الأمامي، ومنهم علي حسن خليل، وائل أبو فاعور، غازي زعيتر ومحمد فنيش. علماً أن من مهام المجلس الذي يضم ممثلين عن النقابات العمالية وأرباب العمل، وممثلين عن الدولة لتسمع مطالب طرفي الإنتاج، "رسم سياسات مستدامة، تُخرج التفكير بالشأن العام من منطق رد الفعل العفوي إلى منطق التفكير المنهجي"، على حد تعبير رئيس المجلس شارل عربيد، الذي أشار خلال مؤتمر صحافي يوم الأربعاء 8 أيار، إلى أن قانون إنشاء المجلس أناط به "إعطاء المشورة في صياغة السياسات الاقتصادية والاجتماعية للدولة، وتنمية الحوار والتعاون والتنسيق بين مختلف القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والمهنية".

وبعيداً عن النصوص، لم تُفلح خلاصات اللقاءات، التي نظّمها وشارك بها المجلس على مدى سنتين، من إسماع صوته إلى الحكومة. فأحيل المجلس إلى أقرانه من الوزارات والإدارات المستحدثة من دون تأثير فعلي. وما وزارات الدولة لشؤون التأهيل الاجتماعي والاقتصادي للشباب والمرأة، ولشؤون التجارة الخارجية، وشؤون التنمية الإدارية، وشؤون تكنولوجيا المعلومات، سوى مزايدة من السلطة على الشعب في موضوع العمل الجدّي.

دفاعاً عن المجلس
أحيَت السلطة المجلس، ثم عَلَت أصوات داخلها تنتقد غياب عمله وصرفه لأموال الدولة، من دون إنتاج، ما استدعى تدخّل عربيد للدفاع عن مجلسه ضد من وصفهم بـ"محتكري الفِهْم، وبعضهم وزراء سابقين". مذكّراً بأن "رئيس وأعضاء المجلس لا يتقاضون أي راتب أو تعويض أو بدل جلسات، وإنما عملنا تطوعي، ينطلق من مهنيّتنا وما نمثّل من نقابات". مشيراً إلى أن كل ما يتعلق بمالية المجلس معروف، و"موازنته ليست سرية، وتبلغ 3.7 مليار ليرة سنوياً". والأهم من معرفة حجم الموازنة، بنظر عربيد، هو معرفة ماذا صُرِف منها. وهنا يقول عربيد أن المجلس في العام 2018 "استعمل فقط 34 في المئة من الموازنة، وإذا استثنينا الضريبة على القيمة المضافة TVA يصبح مجموع مصروفنا من الموازنة 31 في المئة".

وإلحاقاً بموضوع المصاريف، فإن الحكومة أقرت للمجلس "شراء سيارتين، لكننا امتنعنا عن الشراء، ونحن نستعمل سياراتنا الخاصة".
في ما يخص التوظيف، فإن "المجلس فيه موظفين إثنين ثابتين و5 موظفين بالفاتورة منذ 15 عاماً". ومع أن مجلس الوزراء قرر "توظيف 14 شخصاً في ملاك المجلس" إلا أن الأخير تريّث في التوظيف "علّنا نستعين بموظفين من إدارات أخرى فيها فائض. وتواصلنا مع مجالس اقتصادية في الخارج، علّنا نبني قدراتنا ونوفّر من حجم التوظيف في الإدارة". علماً أن ملاك المجلس يضم في الأصل 52 موظفاً.

صورة بلا صوت
أخفَضَت السلطة صوت المجلس، الذي يضم خبراء اقتصاد وأساتذة جامعيين ومهنيين ورجال أعمال. وأرادت للمجلس أن يكون صورة.. بلا صوت. صورة تجمع النقابات والروابط تحت سقف واحد، بعد أن أحكَمَت السيطرة عليهم "بالمفرّق"، عبر تحالفات علّبَت الانتخابات وأنتجَت مجالس نقابات وروابط مسيّرة. 

وبذلك، يخالف الحريري ما أوصى به. فمثلاً، وبدل إسناد وضع خطة اقتصادية للنهوض، إلى المجلس، أجازت السلطة في العام الماضي دفع مليون و300 ألف دولار لشركة ماكينزي، حتى تبحث في كيفية "إيجاد بيئة أعمال جاذبة للاستثمارات الخارجية، وتفعيل قطاعات إنتاجية تنافسية قادرة على تعزيز مؤشرات الأداء الاقتصادي وخلق فرص العمل".
هذا المثال، يعطي صورة عن مدى تأثير المجلس في الواقع. وعدم احترام المجلس وتوصياته وخبرائه، أدى به إلى عدم امتلاك الأرقام والحجج للتأثير على أصحاب القرار السياسي. وذلك دفع بعربيد إلى التأكيد خلال حديث لـ"المدن"، على أن المجلس "سيعزز حضوره بشكل أكبر في المرحلة المقبلة، لأن الواقع يحتاج إلى نقاش كبير بين اللبنانيين".

الدور الصحيح
بعيداً عن طريقة وهدف إبتداع السلطة للمجالس والإدارات والوزارات، إلا أن دور المجلس الاقتصادي الاجتماعي مطلوب وصحيح، خصوصاً وأن وضع الخطط الاقتصادية هو نهج سيادي، لا يجوز إسناده إلى جهات خارجية، بل إلى خبراء لبنانيين يعملون تحت مظلة الدولة. وهنا يبرز دور المجلس في حال أُريد له العمل بجديّة.

فالمجلس يساهم فعلاً في رسم السياسات التي تؤدي إلى الاستقرار بوصفه رؤية بعيدة المدى، تبحث في المقومات الاقتصادية وموارد الدولة وقطاعاتها، وكيفية استغلال كل تلك الطاقات الإنتاجية مهما كانت صغيرة. أما التركيز على خلق إدارات رديفة للوزارات والمؤسسات العامة الأساسية، من دون تقديم أي جهد إضافي ملموس، هو ضرب من ضروب الفساد المقونن، الذي يغطي إهدار ملايين الدولارات سنوياً، ولا تنفع معه موازنات تقشفية إسمية، لا تُبعد شبح الركود عن اقتصادنا، وربما أيضاً شبح الانهيار.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024