الصندوق إذ يردّ على سلامة

عصام الجردي

الجمعة 2020/07/24

تراجيديا من فصول ثلاثة بلغها لبنان ولم تحصل في دولة أخرى عبر التاريخ. مصادرة أموال المودعين وجنى العمر. محاولة تعويض الخسائر من أصول الدولة. أي من المودعين أنفسهم، ومن غير المودعين. وهم نحو 52 في المئة من اللبنانيين لا يملكون حسابات مصرفية. أمّا الثالث فلم يدخل فاعل السجن بعد. الكلّ نواب فاعل والشعب مفعولٌ به وفيه.

لا كوّة مفتوحة للبنان على العرب والعالم إلّا من خلال صندوق النقد الدولي. وزير خارجية فرنسا جان إيف لودريان أكّد المؤكّد أمس. بات الجميع ممّن دفع في اتجاه الصندوق أو عارض الاستعانة به أمام الأمر الواقع. من خلال مجريات التفاوض مع الصندوق التي أمكن الحصول على بعض منها يُستنتج أن ما خلص إليه فريقه المفاوض مع لبنان، وخصوصًا مع مصرف لبنان ووزارة المال، يقود بالضرورة إلى التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان. ذلك أن ما عرضه حاكم مصرف لبنان رياض سلامة للدفاع عن ميزانية المصرف وتقدير خسائره أثار تساؤلات لدى الصندوق. اعتبر إنّها بنيت على قواعد محاسبة لا يوافق عليها، ولا يعتمدها مع أي دولة في العالم. الأمر الثاني، أن فريق الصندوق وليس الفريق اللبناني لا الحكومي ولا لوبي مجلس النواب ومصرف لبنان والمصارف، هو الذي رفض بقوة خلال المفاوضات خفض سعر صرف الليرة لخفض الودائع وتحميل المودعين الخسائر. وكذلك رفض تعويض الخسائر من أصول الدولة..

نعم صدّقوا ذلك. مبادئ الصندوق معروفة ومعلنة. مع سعر صرف واقعي يصل إلى التعويم في المحصلة. وهو يحضّ على الشراكة مع القطاع الخاص. لكنه ضمن رؤية شاملة مالية واقتصادية تتبنّاها الحكومة وتصدر بقوانين في مجلس النواب ومدعومة من الرأي العام. لكنه لمس غياب الرؤية الاقتصادية للخروج من الأزمة. ولحظ الصندوق احتمال وجود كمّ كبير من الفساد أحبط الوصول إلى نتيجة بعد سبع عشرة جولة من التفاوض لم تلج إلى صلب الانهيار واقتراحات الحلول. إتبّاع مصرف لبنان قواعد محاسبة غير تقليدية لا يقرها الصندوق، تركت علامات استفهام كبيرة لدى فريقه المفاوض. لاسيما وأنّ خسائر المصرف هي الفجوة الأكبر في الانهيار المالي. لم يبدِ فريق الصندوق رأيًا في التحقيق الجنائي. هو خارج مهمّته المباشرة. لكنه على الأرجح قبله بالترحاب ضمنيًا لفكّ شيفرة التساؤلات حيال مصرف لبنان خصوصًا بند "موجودات أخرى" في الميزانية، الذي أشرنا إليه في مقالة سابقة. وبقيت تلك التساؤلات بلا أجوبة شافية للصندوق.

خفض الدين وتحميل المودعين
ففي الجلسة التي عقدها وفد صندوق النقد الدولي مع الوفد اللبناني من حاكم مصرف لبنان ووزارة المال في 28 حزيران 2020، كان الموضوع الرئيسي خسائر مصرف لبنان. قال فريق الصندوق المفاوض لحاكم مصرف لبنان، إن ميزانية المصرف تشكو مواطن ضعف فادحة. ويفترض أن تتضمن تعليلًا اقتصاديًا وليس الشأن المحاسبي بذاته. رفض وفد الصندوق أسلوب مصرف لبنان في احتساب الخسائر. لاسيما تسجيل دين على الدولة بمليارات الدولار الأميركي في بند "موجودات أخرى" في الميزانية. وهي خسائر الآن. بينما لا تظهر تلك الخسائر في صلب الميزانية حيث يجب وبشفافية. وقد استدعى النقاش تدخل ممثلي وزارة المال على خلفية النقاش وقالوا لسلامة إن الوزارة سددت الدين بالليرة اللبنانية. الشأن نفسه في الملف الثاني الأثقل في الدين العام وهو كهرباء لبنان. وكانت مفاجأة أن مصرف لبنان لا يسجّل تمويل اعتمادات استيراد المحروقات السائلة والفيول لمؤسسة كهرباء لبنان دينًا للمصرف بل في بند "موجودات أخرى" أيضًا.. طبعًا التدقيق الجنائي سيطل من مسارب عدة تقنية محاسبية، وأخرى قد تفتح في وجهه منعطفات جديدة ليست في الحسبان.

كان للصندوق موقف متشدّد من توسع الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية نتيجة طباعة مصرف لبنان. وقال تلك العمليات غير مسموح بها لأنّها لا تتلاءم مع موجودات مصرف لبنان من العملات الأجنبية. الأمر يتعارض مع قواعد صندوق النقد الدولي طالما أن خلق النقد ليس مرتبطًا بعائد مالي واقتصاد حقيقي. ما أثار حنق فريق الصندوق كلام سلامة بانتفاء الحاجة إلى إعادة هيكلة سندات الدين بالليرة اللبنانية، بدعوى تراجع قيمتها مقيّمة بالدولار الأميركي. هنا استبعد سلامة نهائيًا سعر الصرف الرسمي 1515.7 ليرة على الدولار الأميركي. وتبنّى سعر السوق الواقعية، من دون أن يحدده تمامًا، بعد أن بلغ جدار 9 آلاف ليرة. بيد أن فريق الصندوق اعتبر موقف سلامة "كارثة على اللبنانيين وعملية نقل الخسائر إليهم مباشرة نتيجة تراجع سعر الصرف. وهذا ما لا يوافق عليه الصندوق". و"قدّر الخسائر التي لحقت بالمودعين على سعر صرف 4 آلاف ليرة للدولار الأميركي بنحو 40 مليار دولار أميركي. أما على 8 آلاف ليرة فالخسائر نحو 51 مليارًا.. ورفض الصندوق استخدام أصول الدولة لإطفاء الخسائر".

والواقع أن استخدام الأصول العمومية وحيازات الدولة وكياناتها التجارية، هو منعطف كبير لإطفاء الدين، تلتقي فيه الحكومة وفريق رئيس مجلس النواب ولجنة المال والموازنة ومصرف لبنان والمصارف. ولا بدّ من التوقف عنده بعد تحديد دقيق للخسائر، وتقدير إعادة الهيكلة الشاملة. والفرق في مقاربة كل من الفريقين حيال استخدام تلك الأصول والكيانات يبقى في الشكل وليس في الجوهر. إذ أنّ استثمار موجودات الدولة من خلال صندوق خاص يصدر سندات لمصلحة مصرف لبنان، أو بيع جزء منها، أو الشراكة مع القطاع الخاص لا يلغي أبدًا الواقع المرّ.

سلامة طلب احتساب توظيفات المصارف لديه بالقيمة السوقية. المعروف أنّ القيمة السوقية لسندات اليوروبوندز تراجعت إلى ما دون 18 سنتًا للدولار الأميركي الواحد. رفض الصندوق الاقتراح واعتبر أنّ الفوائد التي دفعت على توظيفات المصارف كانت باهظة ومكلفة.

الخسائر مع احتساب الذهب
المفاجأة كانت في جلسة 1 حزيران 2020 حين اعتبر الصندوق خسائر مصرف لبنان 13 تريليون ليرة لبنانية بعد احتساب قيمة احتياط الذهب (نحو 16 مليار دولار أميركي في حينه. أكثر من 17 مليارًا بالقيمة السوقية أمس) وفي جلسة 25 حزيران 2020 مع لجنة المال والموازنة النيابية أبلغ فريق الصندوق اللجنة إنه خلافًا لموقفها فهو مع خطة الحكومة. ولا يستبعد أن تكون الخسائر الحقيقية أعلى ممّا قدرته الخطة الحكومية. وعارض بشدة تحويل الودائع إلى ليرة لبنانية لأنه ليس عادلًا.

لم يردّ سلامة على ما نشرته "فايننشال تايمز" عن أساليب المحاسبة في مصرف لبنان. ونقلت عن كبير خبراء الاقتصاد في سيتي غروب سابقًا ويليم بويتر "هذا أمر غريب جدًا. إنها مجرد طريقة للمحاسبة لتفجير أصول المصرف المركزي بشكل مصطنع واخفاء موجوداته الصافية أو رأسماله السلبي. والعديد من الأصول هي اختراعات".

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024