تعويضات تفجير المرفأ: الجيش اللبناني حصان طروادة؟

خضر حسان

الإثنين 2020/10/19
أخفَقَت المنظومة في احتواء تداعيات انفلات الأحداث، السياسية منها أو الاقتصادية. ومع أنّ القاعدة الجماهيرية الطائفية ما زالت قيد الانضباط ورهن إشارة الزعيم، إلاّ أنّ الاشارة باتت مُكلِفة. فما قبل 17 تشرين الأول 2019 ليس كما قبله، وحسابات ما قبل جريمة تفجير مرفأ بيروت في 4 آب 2020، تختلف تماماً عمّا قبل هذا التاريخ. ولم تعد الخطابات التقليدية قادرة على إقناع الجمهور قبل الخصوم، ذلك أن الجمهور بات يشكّك في كل شيء. فهل هناك جرم أوقح من تفجير عاصمة ومتابعة النفاق السياسي، وكأنّ شيئاً لم يكن؟

زحمة مبادرات
خمسة أيّام هي المهلة الزمنية التي قيّدت السلطة نفسها بها للخروج بتقرير نهائي حول أسباب الجريمة. أضحَت الأيام الخمسة نحو شهرين ونصف، اتُّهِمَ خلالها عامل "تلحيم"، واستَنفَرَت خلالها السلطة لإعداد مخطّط تبرئة المتّهمين الحقيقيين.

ومع ذلك، تعرف المنظومة الحاكمة أنّها المسؤولة، وإن لم تعترف رسمياً. وهي بالتالي تريد التكفير عن ذنبها، مع الإبقاء على صورتها كمُنقِذٍ للناس. فكانت سلسلة من الخطوات، أهمّها إعلان رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب توقيعه مشروع قانون يعتبر شهداء تفجير المرفأ، شهداء في الجيش اللبناني، وبالتالي، يحق لهم تقاضي معاش تقاعد جندي استشهد خلال قيامه بواجبه. امّا مَن أصيب بإعاقة جزئية أو كاملة، فله تقديمات صحية لمدى الحياة، من الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي.
في المقلب الآخر، أعلنت الهيئة العليا للاغاثة، أنها حوَّلَت مبلغ 100 مليار ليرة إلى حساب خزينة الجيش اللبناني، بهدف دفع "تعويضات المتضررين من انفجار مرفأ بيروت، استناداً إلى آلية يتم وضعها من قبل قيادة الجيش ومحافظة بيروت، واستناداً إلى جداول إسمية يعدها الجيش وفق مبدأ الأولوية، ويتم التزامها وفق الأولوية الواردة فيها".
وبالتوازي، أكّد رئيس مجلس النواب نبيه برّي خلال استقباله وفد لجنة عوائل شهداء انفجار مرفأ بيروت، "استعداده والمجلس النيابي القيام بكل ما يلزم من الناحية التشريعية لانصاف شهداء المرفأ وذويهم وسائر المتضررين". معتبراً أن "جرح المرفأ هو جرح وطني جامع وعابر لكل الطوائف وأن التئام هذا الجرح لا يمكن أن يتم إلا من خلال مقاربته مقاربة وطنية انسانية".

مساعدات بلا قيمة
يؤكّد الأمين العام للهيئة العليا للاغاثة اللواء محمد الخير، في حديث لـ"المدن"، أن "وزارة المالية حوّلت المبلغ إلى حساب الهيئة، التي بدورها حوّلته إلى حساب الجيش اللبناني الذي سيتولّى هو مسؤولية التوزيع بناءً على المسح الذي أجراه".

حصر المسألة بهذا القدر من المعلومات كفيل بإعطاء صورة سريالية للمنظومة، التي تسارع إلى دفع الأموال إلى مستحقيها. غير أنّ الأحوال السياسية والاقتصادية والنقدية تُجبِر على التدقيق في ثلاثة أمور رئيسية على الأقل، أوّلها زيادة الإنفاق العام في ظلّ تدهور الأوضاع المالية وتراجع سعر صرف الليرة، ما يعني ترتيب أكلاف إضافية على الدولة، في وقت تتراجع فيه الإيرادات. الأمر الذي يزيد عجز الخزينة العامة.
ثانيها، فقدان قيمة المساعدات بسبب ارتفاع أسعار الدولار وارتباط كل مواد البناء ومستلزمات الديكور والزجاج والألمنيوم.. وما إلى ذلك، بسعر الدولار في السوق السوداء. أي أن ما سيحصل عليه كل متضرّر، بالليرة اللبنانية، لن يؤمّن له احتياجاته المطلوب شراؤها بالدولار. فبأحسن الأحوال، قد تحصل كل وحدة سكنية على نحو 4 مليون ليرة، أي ما يعادل نحو 500 دولار، وهو مبلغ غير كافٍ لجعل الوحدة صالحة للسكن، ولا هو حلٌّ مستدام.
ثالثاً، إنّ إسناد مهمة التوزيع للجيش، يعني الركون إلى معطياته وكشوفاته والتسليم بحسن إدارته للأمور. لكن هل ستترك المنظومة الحاكمة الأمور إلى تحقيقات الجيش وجداوله؟ قد لا تعطي الجداول صورة حقيقية عن حجم الأضرار. وإن أعطَت، فالمفاضلة في دفع التعويضات بحسب الأولويات، كافٍ لإشعار البعض بالغبن، فالجميع متضرر بنسب متفاوتة، وليس الجميع بقادر على الحصول على المساعدة. فيصبح الجيش في هذه الحالة في مواجهة مع المواطنين. مواجهة تَنفَذ منها المنظومة لتبلغ جمهورها - في حال حصول أي خلل في التوزيع - أنّها كلّفت الجيش، وهو المقصّر. أمّا في حال النجاح، فسيعود الفضل إلى الزعماء، بوصفهم المحرّض الأساسي على تحويل المبالغ إلى الجيش.

شركات التأمين بالانتظار
تأرجُح سعر صرف الليرة وبقاؤه منخفضاً مقابل الدولار، يجعل من مساعدات الدولة "لزوم ما لا يلزم"، على الرغم من حق المواطن بها. لكن المطلوب هو الثقة الذي يثبّت سعر الصرف.

أيضاً، فإن التأرجح وعدم تحديد المسؤوليات والخروج بخلاصة شفّافة حول التفجير وأسبابه ومسبّبيه، يؤخّر انتفاع المتضررين من شركات التأمين التي يفترض بها تغطية ملايين الدولارات، فيما رساميلها لا تتجاوز 3 مليون دولار للشركات اللبنانية و6 مليون دولار للأجنبية.

تكفير عن الذنب
تحاول السلطة التكفير عن ذنبها، متناسية أن الخطوة الأولى في رحلة التكفير، هي الكشف عن خبايا التفجير، أيّ الإفصاح عن هوية الجهات المستفيدة من تخزين كميات الأمونيوم، والجهات التي عرقَلَت إخراجها من المرفأ. فضلاً عن الأسباب الحقيقية للتفجير، إلى جانب تفسير سبب عدم إعلام فريق الدفاع المدني بحقيقة ما يوجد داخل المخزن.. وصولاً إلى سبب التهاون في محاسبة كبار المسؤولين عن التفجير. 

أسئلة كثيرة تحتاج إلى إجابات، لا تبرِّدُ نارَها خطابات التضامن والمواساة وتأكيدات توزيع فتات الليرات التي فقدت قيمتها.
وفي معرض محاولة التكفير، تلجأ المنظومة إلى التلطّي خلف الجيش اللبناني، الذي ما زال يحظى بمصداقية تفوق مصداقية أحزاب السلطة. فتوكِل إليه مهمّة توزيع المساعدات، على غرار المساعدات التي خصصت للطلاب، بعد انكشاف أمر السرقة والمحسوبيات. علماً أن الجيش لا علاقة له بكمية الأموال المُراد توزيعها، ولا بآليات صرفها وانعكاساتها الاقتصادية، وكذلك بتناسبها مع قيمة أسعار السلع في السوق.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024