وثيقة من العام 1997: السلطة عرفت الحقيقة واختارت الفساد

عزة الحاج حسن

الإثنين 2019/05/06
منذ أكثر من 20 عاماً وحتى اليوم، الأزمات نفسها تتكرر والعجوزات تتراكم. أما المضحك المبكي فهو إدراك كل من مرّ على السلطة في لبنان بالأسباب الحقيقية للأزمات، وتجاهله في الوقت عينه للحلول. وليست الأزمات المالية والاقتصادية التي تُغرق البلد حالياً سوى صنيعة الحكومات المتعاقبة كافة، بسياسييها الحاليين والمتقاعدين وحتى المتوفين. لا يمكن تبرئة أحد من جريمة إغراق الاقتصاد اللبناني في مستنقع العجز والفوضى. كما لا يمكن تبرئة أحد من المساهمة باتساع حجم القطاع العام وتراجع إنتاجيته.

الجميع ساهم بتضخم القطاع العام في لبنان، والجميع أيضاً يشارك اليوم في "الانقضاض" على مخصصات ومكتسبات الموظفين، الذين لم يكونوا يوماً سبباً لأزمة المؤسسات، إنما أداة بيد السياسين، الحاضرين منهم والغائبين، لإخفاق القطاع العام وتفريغه من الكفاءات.

تضخم القطاع العام يشكل سبباً رئيسياً للأزمة المالية القائمة. وحلول معالجتها لم تكن غائبة يوماً. بل كانت الحاضر الدائم في أدراج مجلس الوزراء منذ العام 1997، من دون أن تسعى أي من الحكومات المتعاقبة إلى تنفيذها. ولو أن إحدى الحكومات "شمرت عن زنودها" ونفذت سلة الحلول المطروحة للقطاع العام منذ العام 1997، لما وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم. واللافت، أن الحلول التي تم طرحها في الخطة الإصلاحية المتكاملة منذ أكثر من 20 عاماً، تثبت استمرار النهج الخاطئ للدولة. ومن ذلك الحين وحتى اليوم، لا يزال السياسيون "ينافقون". يعلنون الحل ويعملون عكسه.

22 عاماً الى الوراء
في شهر كانون الأول من العام 1997 أقر مجلس الوزراء مقترحات لمعالجة الوضع المالي والاقتصادي والإداري ولتعزيز النمو (المستند المرفق). ورأى حينها أنه بات من لضروري تبني حالة تقشف، وتفادي الإنفاق غير المجدي، وتقليص حجم النفقات بشكل عام. وخلص مجلس الوزراء آنذاك إلى أن أسباب تراكم الدين العام، وحجم خدمته، ناتج بمعظمه عن الزيادة في الإنفاق على الشأن الاجتماعي والصحي والرواتب. وانطلاقاً من ذلك، قرر السير بالورقة الإصلاحية المذكورة، التي من شأن تنفيذها أن تحقق الدولة إصلاحاً مالياً واقتصادياً وإدارياً وتعزز النمو.

وبالنظر إلى مضمون تلك الورقة نلحظ مدى "نفاق" الحكومات ومحاربتها للإصلاح منذ عشرات السنين، إليكم أبرز ما ورد فيها:

1 - وقف التوظيف بكافة أشكاله، بما في ذلك الاستخدام في المؤسسات العامة. ووضع خطة سداسية لتخفيض عدد الموظفين والعاملين في جميع أسلاك الدولة، من دون استثناء، بما فيها الأجهزة العسكرية. ووقف توسيع الملاكات في جميع الإدارات العامة مدنية وعسكرية.

إذاً أزمة تضخم القطاع العام ليست مستجدة، لكن بدلاً من التزام هذا البند منذ 22 عاماً، عمد السياسيون إلى الاستمرار في التوظيفات العشوائية، حتى تحول تعداد موظفي القطاع العام من بضعة آلاف عام 1997 إلى ما يزيد عن 300 ألف موظف عام 2019.

والمفارقة أنه رغم التضخم الحاصل في القطاع العام اليوم، تعاني غالبية مؤسسات الدولة من نقص فادح في وظائف الفئات الثانية والثالثة، مقابل فائض كبير بين موظفي الفئات المتدنية، لاسيما تلك التي لا تحتاج إلى كفاءات علمية ومهنية عالية. وإن دلّ ذلك على شيء فهو يدل على أن التوظيف يتم بعشوائية تامة، ولأسباب انتخابية ومصلحية بحتة.

فلا يكترث اليوم المنادون بتقليص حجم القطاع العام، وهم من أدخلوا إليه 5000 موظف قبل الانتخابات النيابية الأخيرة، لا يكترثون للنقص الفادح بين موظفي الفئة الثانية والثالثة في مديرية الملاحة الجوية، وكذلك في الضمان الإجتماعي، وبين موظفي المؤسسات الرقابية ومفتشي الوزارات وغيرها من الوظائف فائقة الأهمية.

2 – تضمنت الورقة الإصلاحية بنداً يمنع استعمال سيارات الدولة لشؤون موظفي الدولة الشخصية.

ومنذ ذلك الحين وحتى اليوم، نلحظ سيارة النائب أو الوزير أو المدير العام أو حتى الموظف "المحظي"، تُستخدم بكل ما يلزم العائلة. ليس هذا وحسب، بل يُسخّر رجال الأمن المولجين الحماية الشخصية بتلبية الحاجيات المنزلية الخاصة، من المدرسة إلى النادي إلى التسوق وغير ذلك من المهام.

3 – كما ورد في الورقة بند يمنع أي موظف من تقاضي أي تعويض إضافي، وبند آخر يفرض خفض كميات البنزين التي تقدم إلى العاملين في المؤسسات العامة والأجهزة العسكرية. وطبعاً، حتى اليوم لا زالت هذه الأمور سارية وتكلف الخزينة ملايين الدولارات سنوياً

4– أما البند المضحك في تلك الورقة الإصلاحية، فهو ما ينص على التوقف عن تكليف العاملين في الدولة بالسفر، للقيام بمهام في الخارج، إلا في الحالات التي يقررها مجلس الوزراء، أو الحالات التي لا تتحمل فيها الدولة أي نفقة. والحال، منذ ذلك الحين هو أن الموازنات العامة ترصد عشرات ملايين الدولارات لتغطية نفقات السفر للوزراء والنواب وكبار الموظفين، حتى أن عدداً كبيراً من المؤتمرات واللقاءات التي تتم في الخارج على حساب الخزينة، يمكن أن يتم حصرها بسفراء لبنان في الخارج.

وتصل وقاحة المسؤولين غالباً إلى استخدام الطيران الخاص في سفرهم، وفتح صالونات شرف في المطارات الأجنبية. وكل ذلك على حساب الخزينة العامة. وقد رصدت موازنة العام 2019 "التقشفية" 26.4 مليار ليرة للسفر والمؤتمرات الخارجية.

5 – أما البند الأخير من الورقة الإصلاحية البالغة 22 عاماً من العمر، فيتضمن عدم الموافقة على تخصيص أي اعتماد إضافي، أو نقل أي اعتماد من احتياطي الموازنة لتغذية بنود الموازنة، إلا في حالة الضرورة القصوى التي يقررها مجلس الوزراء.

ومنذ تاريخ تلك الورقة، استمرت الحكومات بالصرف على طريقة حسابات "الدكاكين"، إلى حين غابت الموازنة كلياً منذ عام 2005 ولمدة 11 عاماً، وعاثت الفوضى في المالية العامة واستمرت حتى اليوم، رغم عودة الموازنة العامة. إذ أن تأخر إقرارها يذهب بالحكومة إلى الصرف على أساس القاعدة الإثني عشرية، ليس على مدى شهر كما هو محدد بالقانون، إنما بشكل غير محدد. ما يعني استمرار الفوضى في الإنفاق العام.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024