شهادات "متوسطي الدخل" عن سقوطهم بـ"جهنم" الفقر والهجرة

عزة الحاج حسن

الأحد 2020/09/27
لم يعد للفقر مقياس واضح في لبنان. فالأزمة المعيشية الناجمة عن تضافر أزمات جعلت من غالبية اللبنانيين فقراء. ولم تعد حال الفقر تشمل العاطلين عن العمل أو غير المتعلمين وأصحاب المهن وسواهم، بل إنها باتت تشمل معظم الفئات. فالأستاذ الأكاديمي اليوم بات فقيراّ ورجل الأمن فقير، والمهندس أيضاً فقير، وحتى الطبيب قرع الفقر بابه. وانهيار الليرة يدفع آخر أركان الطبقة الوسطى إلى خانة الفقر تدريجياً.

بين الوفرة والكفاف
قد لا يعجز عدد كبير من موظفي القطاعين العام والخاص وأصحاب المهن الحرة وأصحاب المراتب في الأجهزة الأمنية وسواهم ممن كانوا يشكّلون الطبقة الوسطى عن تأمين غذاء عائلاتهم اليومي، إنما باتوا من دون شك عاجزين عن الاستمرار بتأمين الحاجيات التي لطالما كانوا يؤمنونها لعائلاتهم من تعليم وطبابة وضرورات معيشية ومزايا اجتماعية. 

وتقول ن. غ. وهي مهندسة مدنية في حديثها إلى "المدن" أن "مدخولنا الشهري أنا وزوجي (مهندس) كان 6 ملايين ليرة (أي نحو 4 آلاف دولار وفق السعر الرسمي 1500) ويؤمن لنا في السابق كافة احتياجاتنا. وعلى هذا الأساس قررنا أن ننجب طفلاً. أما اليوم فباتت مداخيلنا تقل عن 500 دولار. وشركة الهندسة التي أعمل فيها تواجه مشاكل مالية وقامت بخفض الرواتب". وتسأل المتحدثة نفسها: "كيف يمكننا تأمين حاجات المولود الجديد الأساسية برواتب لا تكفي لشراء مواد غذائية على مدار الشهر؟ وكيف بنا أن نطلب مساعدات اجتماعية نحن الذين تعلّمنا ودرسنا في الجامعات وأهدرنا سنوات حياتنا كي نؤمن معيشة لائقة؟".

لا يعبّر سؤال المهندسة عن حالتها فحسب، بل عن حالات مئات الآلاف من اللبنانيين الموظفين والإداريين والعمال والطامحين والناشطين والمتعلّمين، ومختلف الفئات التي تحوّلت مداخيلها المتوسطة إلى فتات بفعل انهيار الليرة وارتفاع التضخم وتراجع القدرة الشرائية.

اجتياح الفقر
ووفق التقديرات ارتفع مؤشر الأسعار بين شهر آب 2020 وآب 2019 بنسبة 100 في المئة، ما يعني انخفاض الأجر الفعلي بالليرة اللبنانية إلى النصف. ويرى خبراء الإقتصاد أن الأسعار سترتفع مع وقف الدعم بنسبة 60 في المئة إضافية، الأمر الذي سيساهم بخفض الأجور إلى الثلث... حينها يكون الفقر قد اجتاح لبنان بشكل فعلي.

ترفض ف.أ. وهي مدرّسة رياضيات للصفوف الثانوية الواقع المستجد على عائلتها، وتقول في حديثها ألى "المدن": "أعمل منذ سنوات في التعليم الثانوي قبل الظهر وإعطاء الدروس الخصوصية لتلامذة الصفوف الإبتدائية والمتوسطة بعد الظهر. بذلت جهدي كي أتمكّن من تأمين مستوى معيشي لائق لابنتَي. فلماذا عليّ اليوم أن أحرم ابنتَي من كافة النشاطات التي كنت أؤمنها لهما؟ لماذا عليّ أن أتعود على الوقوف في الطوابير أمام محطة المحروقات والفرن والسوبر ماركت لشراء منتجات مدعومة؟ ورغم ذلك يهدّدوننا بوقف الدعم. وهل تسعى السلطة إلى تحويلنا متسوّلين؟ لماذا عليّ أن أتعلم وأعمل وأخطّط وأهدر وقتي وصحتي على مدار 15 عاماً كي أؤمّن مستقبل لي ولأطفالي، فتأتي السلطة وتسلبنا كل شيء؟ كيف لي تقبّل ذلك؟".

الهجرة أفقاً
بات خيار الهجرة المنفذ الأساس لمن استطاع إليه سبيلاً، خصوصاً من مواطني الطبقة الوسطى، وموظفي القطاع العام والقوى الأمنية. الهجرة من أولويات خططهم المستقبلية. ويقول أحد العسكريين في الجيش اللبناني (31 عاماً): "أحضّر أوراقي وأوراق زوجتي وطفلي الصغير لتقديم طلب الهجرة إلى كندا".

ويتحدث العسكري عن معاناته المعيشية، وراتبه لا يتجاوز مليون و800 ألف ليرة لبنانية، أيّ ما يعادل حالياً 211 دولاراً أميركياً فقط. قبل 4 آب، كان العسكري يفكر بالهجرة. لكن انفجار المرفأ، دفعه إلى الاستعجال بأوراقه نحو كندا. وينتظر الموافقة الرسمية لتقديم استقالته من عمله. وقد صار أكثر خوفاً على مستقبل طفله الرضيع، في وقت لم يعد راتبه يكفي لتأمين أدنى مقومات عيشه، على حدّ قوله. ويشرح: "بعد أن كانت الوظيفة في السلك العسكري هي حلم الشباب اللبناني، خسرتْ مؤخراً معظم امتيازاتها، وتراجعت التقديمات فيها إلى مستوى كبير في التعليم والطبابة. ومعظم  زملائي العسكريين يتمنون الحصول على فرصة للهجرة، لأن حياتنا وحياة أولادنا صارت في نفق مظلم".

جوع ما بعد الفقر
قبل الحديث عن وقف الدعم كانت أرقام أعداد الفقراء في لبنان متشائمة جداً. فكيف بها بعد وقف الدعم؟ ففي دراسة للجنة الأمم المتحدة الاجتماعية والإقتصادية لغربي آسيا (إسكوا) مؤخراً، تبيّن أن نسبة الفقراء في لبنان تضاعفت من 28 في المئة عام 2019 إلى 55 في المئة عام 2020. وارتفعت نسبة الذين يعانون من الفقر المدقع بنحو 3 أضعاف: من 8 في المئة إلى 23 في المئة.

وبحسب الأرقام التقديرية فإن عدد الفقراء من اللبنانيين اليوم يفوق 2.7 مليون شخصاً. ذلك بحسب خط الفقر الأعلى. ما يعني تآكل الطبقة الوسطى بشكل كبير وانخفاض نسبة ذوي الدخل المحدود إلى أقل من 40 في المئة من السكان.

هذه الأرقام المخيفة تقارب الواقع الحالي، أي في ظل دعم مصرف لبنان استيراد المواد الإستهلاكية الأساسية. أما مجرّد التفكير في تداعيات وقف الدعم في الأشهر القليلة المقبلة وتأثيره على كلفة معيشة المواطنين، فإن النتائج ستكون وخيمة ولا تقل عن مضاعفة أرقام الفقراء والجياع. ويقدّر الخبراء احتمال تزايد نسب الفقر بعد رفع الدعم إلى مستوى 70 في المئة من اللبنانيين.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024