"المركزي" والذهب تحت مِجهر الدائنين

عصام الجردي

الجمعة 2020/03/27

أُسقط الأمر في يد النظام السياسي برمته كي يرسم منافذ للخروج من الانهيار الشامل. القضية أكبر من الحكومة، ومن أي حكومة أخرى طالما تفتقد إلى رؤية اقتصادية شاملة (مالية ومصرفية ونقدية واجتماعية) مرفقة بخطة وسياسات تُقرّ بقوانين وتشريعات من مجلس النواب، وترعى تطبيقها سلطة قضائية مستقلة وقضاة مستقلون يستوحون الدستور والقوانين. ويعاقبون من أخطأ وارتكب تجاوزات، وقصّر في مسؤولياته بحسن النيّة حينًا وسوئها أحايين. ينسحب ذلك على وزراء المال، ومصرف لبنان والمصارف، وعلى الحكومات المتعاقبة ومجالس النواب. الاستهانة بهذه الحقائق أو ما نعتبرها كذلك، في زمن الحجر لمواجهة كورونا، هو انكشاف على كورونا الانهيار، والفوضى التي لم تأتِ بعد.


الكلام الفضفاض السّهل عن تقييد السحوبات المصرفية والتحويلات (كابيتال كونترول) وقصّ الشعر (هيركت) وهيكلة الدين الخارجي والداخلي ومصرف لبنان، وعن التعاميم الموقتة وسوى ذلك، يستحيل أن يكون من خارج الرؤية الاقتصادية الشاملة والخطّة. وكناية عن شراء الوقت من جديد. وقد استنفدناه قبل الانهيار ونحن في القاع الآن، وعدنا إلى شحن الساعة يدويًا بالموقت. بينما المطلوب استشراف الدائم للمستقبل. مشروع (كابيتال كونترول) الذي لم تفلح الحكومة في تحويله مشروع قانون لإحالته إلى مجلس النواب، يبدو وهلة أولى إنه لحماية المصارف من المودعين وأصحاب الحقوق أمام القضاء. وهو كذلك في خلفيته، لكنه أبعد من ذلك بكثير.

"حلاقة لا هيركت"!
نؤكد من جديد، أن مشروع (كابيتال كونترول) شديد التعقيد. لكونه يتصل بإعادة هيكلة المصارف ورسملتها وحلتها الجديدة، كي تعود إلى ممارسة نشاطها الاقتصادي في جائحة ركود ونمو سالب، دهم مع كورونا. بهيكلة المصارف ننتقل حكمًا إلى هيكلة الدولة المالية ودينها. وهيكلة مصرف لبنان، ومصير المفاوضات مع الدائنين الخارجيين وضباع الصناديق، بعد أن أكّدنا المؤكّد "منعًا للبس والغموض" إننا توقفنا عن سداد كل سندات اليوروبوندز واستحقاقاتها. الـ(هيركت) تحصيل حاصل. والواقع، إنه تخطى هذه المرحلة إلى مرحلة الحلاقة (Shaving) منذ أن عمّم مصرف لبنان دفع جزء من الفوائد على العملات الأجنبية بالليرة اللبنانية، وحبست المصارف ودائع عملائها، وتوقفت التحويلات إلى الخارج وبلغت خسارة سعر الصرف 60 في المئة حدًا أدنى. ومنذ تعميم آخر استمرّ نحو شهر وقضى بسداد الحوالات الخارجية من العملات الأجنبية بالليرة اللبنانية. قبل أن يلغى بتعميم آخر من دون معرفة أين ذهبت تلك التحويلات وكيف تصرفت بها وكالات تحويل الأموال الخاصة. كل ذلك يحضر خبط عشواء. ونعتقد أن التعميم الموقت لشهور ثلاثة المتعلق بتقديم مصرف لبنان تسهيلات للمصارف لإقراض المتخلفين عن السداد بصفر في المئة، سيلقى بدوره معارضة المصارف، لأنه سيكشف مراكزها على قروض بالعملات الأجنبية وعلى مسؤوليتها رغم وجود تسهيلات مصرف لبنان. كل ذلك خبط عشواء لغياب الرؤية الاقتصادية الشاملة والخطّة.


سيتوقف كل شيء على الإجابة عن أسئلة ثلاثة. ماذا تبقّى لدينا من عملات أجنبية في المصارف ومصرف لبنان؟ وما هي الفجوة المالية وبالتالي حجم الفاتورة المطلوبة لجسرها؟ ومن أين المال؟ نسأل أجوبة بذاتها. بقيت الأسئلة لدى الحكومة فقط، تتستّر عليها كمن يتستّر على عوارض كورونا. توقفنا عن سداد استحقاقات 2037. رغم ذلك لم نستطع تأمين تمويل أجهزة التنفّس الاصطناعي رغم استغاثة المستشفيات والجسم الطبّي. ونعاني نقصًا فادحًا منها. المؤشر يكفي ويزيد. الحسابات في الدفاتر وعلى الورق!

التعيينات والكابيتال كونترول
مرّة ثانية لم يتمكّن مجلس الوزراء في جلسته يوم الخميس من بتّ تعيينات نواب حاكم مصرف لبنان، ولجنة الرقابة على المصارف، ومفوض الحكومة لدى مصرف لبنان وأعضاء هيئة الأسواق المالية. وتركها معلّقة على حبل المزايدات والاستحصاص السياسي. الأمر نفسه حصل في مشروع (كابيتال كونترول). مصرف لبنان ورشة عمل أساسية لمواجهة الانهيار المالي. لكن رئيس الحكومة الدكتور حسّان دياب ارتضى إدخال قرار التعيينات والمشروع في البازار السياسي. واقتفى في ذلك أسلوب الحكومات السابقة التي تحمّل تركتها كما يردّد دائمًا على حقّ. فأي مخرج من التركة - الأزمة ستسلكه الحكومة طالما نهجت سبيل توزيع التعيينات على هوى السلطة السياسية وزعماء الطوائف أنفسهم، أصل البلاء والانهيار والدولة الفاشلة.


ونلفت انتباه الحكومة إلى أن مصرف لبنان بالذات هو اليوم محطّ اهتمام الدائنين الدوليين والصنديق الاستثمارية بعد التوقف سداد اليوروبوندز وإصداراته كافة، لكونه مالكًا احتياط الذهب اللبناني. وهذه وظيفة الاستشاري القانوني الدولي الذي استعانت به الحكومة كي يقنع الدائنين باستقلال مصرف لبنان عن السلطة السياسية كي يستقلّ الذهب عن ملكية الدولة المتوقفة عن السداد. وبحسب المادة 13 من قانون النقد والتسليف فمصرف لبنان يُعتبر"شخصًا معنويًا من القانون العام ويتمتع بالاستقلال المالي" رغم كونه مصرف القطاع العام والدولة اللبنانية. ونحسب أن تدخل السلطة السياسية في تعيين نواب حاكم المصرف ولجنة الرقابة على المصارف، واستمرار الشغور إلى حين اقتسام الحصص، لن يكون في مصلحة لبنان، وسيوفّر للدائنين حجة إضافية على عدم استقلال مصرف لبنان عن الدولة. خصوصًا، وأن المصرف تورّط في تسليف الدولة والحكومات بما يتجاوز الأصول والنصوص التي يجيزها قانون النقد والتسليف. وبات في حزمة هيكلة واحدة متزامنة مع هيكلة المصارف ودين الدولة. الأمر الثاني في يد الدائنين الدوليين، هو القانون الذي صدر عن مجلس النواب عام 1986 وحظّر التصرّف بالذهب بأي شكل من الأشكال بما في ذلك على مصرف لبنان رغم ملكية المصرف للذهب.


مشروع (كابيتال كونترول) لا مجال للمزايدات السياسية فيه. هو في الأصل محصّلة للانهيار المالي صنيعة السياسيين ومصرف لبنان والمصارف. ونتيجة طبيعية لعجوز ودين وفوائد، بلا موازنات ولا قطوع حسابات ولا رقابة. ونفقات جارية وإهدار وسرقات وتعطيل عمل كل مؤسسات الرقابة والمحاسبة. الحكومات ومجالس النواب مسؤولة مباشرة. ومصرف لبنان والمصارف. إدّعاء بطولات سياسية في هذا المجال باطلٌ من أي طرف كان. وفي ظل هذا ارتباك الحكم والحكومة، وغياب مؤسسة مجلس النواب عن الصورة ليتحمل الكل مسؤولية المشروع وفقًا للدستور والقانون، يكاد يضيع الخطّ الفاصل بين المسؤولية عن الانهيار المالي المتعلق بالتوقف عن السداد، وبين سوء الإدارة أو سوء الائتمان. ويغدو المشروع "دوكمة" لتشتيت المسؤوليات وأصحاب الحقوق وعدم المحاسبة.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024