مصرف لبنان تكّية النظام

عصام الجردي

الجمعة 2019/05/24

الوصول إلى خفض عجز موازنة 2019 إلى الناتج المحلي بواقع 7.6 في المئة  أكثر أو أقل، لا يعتمد على خفض النفقات وزيادة إيرادات الموازنة وحسب، بل وعلى مقدار النمو والناتج في 2019، المؤشر المعياري لبلوغ الحكومة هدف خفض العجز في نهاية السنة. فكلما تراجع الناتج المحلي كلما ارتفع العجز إلى الناتج والعكس صحيح. بصرف النظر عمّا إذا تمكنت الحكومة من وضع تقديراتها لنفقات الموازنة وإيراداتها موضع التنفيذ في نهاية السنة. وعلى جاري العادة، تزداد النفقات في نهاية سنة الموازنات، وتتراجع الإيرادات. لكن يكفي أن يحقق الناتج نمواً حقيقياً ملموساً كي يتم استيعاب الفجوات المالية المحتملة في نهاية السنة المالية. لا نرى أي إشارة للنمو المعياري في 2019.

خيبة وقنوط
من يمحصّ قليلاً في مسار مناقشات مشروع موازنة 2019، يمتلكه شعور بالخيبة والقنوط الكبيرين. أولاً، لا أثر لدور الموازنة الإقتصادي في 2019. لا نعلم حتى سيناريوات وزارة المال والحكومة حيال النمو الحقيقي المتوقع وإمكان تحققه فعلياً في نهاية السنة، كي لا يصمم خفض العجز إلى الناتج على وهم. ثانياً، سيطر رهاب خفض العجز المالي على الحكومة وتوجهاتها. ولأنها عجزت عن ولوج زيادة الإيرادات، الضلع الثاني الملازم لخفض العجز، راحت تسرب هي معلومات متضاربة عن مناقشات مجلس الوزراء حيال مصادر خفض النفقات. لرصد ردود الأفعال قبل الإقدام على خفضها في مشروع الموازنة. برز ذلك بوضوح في التعامل مع خفض معاشات تقاعد العسكريين، والأسلاك المدنية، وموظفي الإدارة العامة وغيرها. وفي درجات المعلمين والأساتذة الثانويين وتقديماتهم. وزير الإعلام يصرح. وزير الدفاع ينفي. العسكريون المتقاعدون في الشارع. والجمارك، وقسم كبير من الإدارة العامة والمعلمين والأساتذة الثانويين وغيرهم مضرب. وصلت السخرية إلى حدّ تساؤل وزير المال ورئيس مجلس الوزراء أكثر من مرة عن أسباب التحرك والإضرابات. "لأن كل ما يقال في الخارج ويسرب عن المسّ برواتب المتقاعدين والعاملين في القطاع العام لا أساس له من الصحة"! ومعروف للقاصي والداني أن كل تركيز المناقشات هو على مكتسبات العاملين في القطاع العام وبعض المؤسسات العامة والمصالح المستقلة ومصرف لبنان. الأجور والرواتب هي أصل تلك المكتسبات. وعليها تؤسسس معاشات التقاعد. وهي جزء لا يتجزأ من عقد العمل. هكذا تقول القوانين واتفاقات العمل العربية والدولية.

الإخلال بملاحق الأجر إنما يخل بالأجر والعقد. إلاّ مجلس وزراء لبنان لا يدرك هذه الحقيقة. وربما أدرك، لكن الإرادة السياسية ليست موجودة لولوج خفض العجز المالي من زيادة الإيرادات من حيازات تعود للدولة ومن حقوقها بجباية الضريبة والتكليف العادل والشامل.

ضريبة الدخل الموحّد
أن تصل البدائل إلى فرض مكوث على زجاج السيارات الداكن اللون، فأمر غريب لا يصدّق. ومحظور أساساً لغير الأجهزة الأمنية. يشرع الآن لتصبح الشوارع والأزقة مماراً للأشباح والريبة ورهاب المواطن. ونسأل، هل سيترك مستخدمو هذا النوع من السيارات الداكنة الزجاج بلا رقابة أمنية؟ هل يمكن تمييز مركباتهم عن مركبات الأجهزة الرسمية. كم ستدفع الدولة تكلفة رقابتهم ومطاردتهم حين الحاجة؟ دولة مفلسة سياسياً فاقدة الثقة بنفسها تُقدم على إجراءات كهذه. ولأنها كذلك تعوزها ثقة الشعب وتحوز ثقة الزبائن من لدنها ولدن قانون الإنتخاب المذهبي والطائفي المتخلف. هي ليست عاجزة عن توازن الموازنة بل ليست راغبة فيه. والسبيل طوع يدها ومرمى نظرها. أن تسترد حقوقها من الأملاك البحرية والبرية. وتجبي الضرائب وتحصل الرسوم. هذه أكثر من 7 مليارات دولار أميركي. الحل الأبسط، قانون ضريبة الدخل الموحد التصاعدية. هي وعاء ضريبي تنزل فيه كل أنواع الكسب الفردي والمؤسسي. يحد على نحو فاعل من التهرب الضريبي. ويوفر جهداً بلا طائل لجهاز الجباية المالية ورقابتها. ويحد من الفوضى العارمة حين إعداد الموازنة السنوية. لماذا لا يريدون هذا القانون أيضاً؟

هل يمكن وزير المال تقديم موجز وضع مالي عن الشهور الخمسة الأولى حتى نيسان 2019؟ وتوقعه لحزيران الشهر الذي ستستغرقه مناقشة مشروع قانون الموازنة في لجنة المال والموازنة والهيئة العامة؟ كي نقترب قليلاً من فك أحجية خفض العجز عن الشهور الستة الباقية من نهاية السنة. نحن ننفق على القاعدة الإثنتي عَشرية. ومطالبون بتصديق موازنة 2017 قبل إقرار موازنة 2019 ونفاذها. هل يمكن إفادتنا عن قطع الحساب، ومصير حسابات المالية العامة 1993 – 2017 المنجزة كما أُعلن رسمياً؟

وسادة النظام المريحة!
نعم، الخيبة والقنوط في القادم من الأيام. مرة أخرى تكّية يستريح اليها النظام للحفر في أزمة كيان ودولة. 11 تريليون ليرة لبنانية ديناً بفائدة 1 في المئة من مصرف لبنان. مرّ التصريح الغامض غير المفصّل من وزير المال بلا ردة فعل ولا تعليق. الغالبية الساحقة من الوزراء لا تدرك معنى التدبير وارتداداته. طالما لا يرتب أثراً على اعتمادات وزارتهم. العكس صحيح، يؤمن مصدر تمويل سهلاً. وهو الأسوأ في العادة. رياض سلامة يعطي السلطة السياسية ذخيرة لإطلاق النار على الليرة. كنا لنقول على نفسه أيضاً، لو أننا في بلد دستور ومؤسسات، ورجال تستحقهم مراكز المسؤولية ويستحقونها وليس العكس. حاكم مصرف لبنان الذي اضطر إلى استنفار نفوذه السياسي والإعلامي حين اقتربت جلسات موازنة 2019 من مناقشة العلاقة بين الحكومة وبين مصرف لبنان، لا يرى ضيراً في توفير صفقة دين ضخمة للدولة غير مسبوقة حجماً، وهو العليم أكثر من غيره بتبعاتها النقدية اولاً، والمالية والإجتماعية في المحصلة. من دون أن يكون لها أي أثر يذكر في الإقتصاد والنمو. في مثل هذه المنعطفات الخطيرة، يريد المواطن استقلالاّ لمصرف لبنان عن السلطة السياسية. كل ما يفعله سلامة يؤكد أن مصرف لبنان هو مصرف الدولة اللبنانية. لكنه لا يتعاطى معها بمفهوم المصرف التجاري كما منطوق قانون النقد والتسليف. ولو فعل لما حصل النظام السياسي على 26 مليار دولار أميركي ديناً من المصرف. سيضاف اليها 11 تريليون ليرة لبنانية أي نحو 7 مليارات و300 مليون دولار أميركي. عاطلة من العمل. لا الإقتصاد قادر على استيعابها وتحويلها اسثماراً منتجاً، ولا الدولة فاعلة في السبيل نفسه إذ توجه النفقات لسداد التزامات الحساب الجاري رواتب الموظفين وفوائد الدين العام. ومن الطبيعي أن ترتد السيولة على سوق القطع والطلب على العملات.

لقد اعتاد النظام السياسي على سلامة وسادة مريحة لتمويل فشله السياسي. وسلامة شغوف بالبهرجة والترويج في لحظة مطالب فيها بالتوكيد على استقلال مصرف لبنان عن السلطة السياسية وعلى انتمائه إلى الدولة اللبنانية.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024