"مجلس النقد" بدل مصرف لبنان: وهمٌ وعودةٌ إلى الاستعمار

علي نور الدين

الثلاثاء 2021/02/02

عمل الاقتصادي الأميركي المعروف ستيف هانكي كمستشار ملِك في العديد من الدول التي تمكّن من إقناع حكّامها بفكرة "مجلس النقد"، بعد أن باتت الفكرة "عقيدة" بنى على أساسها سمعته وسيرته المهنيّة الطويلة، ويتبعه لأجلها الكثير من معتنقي الفلسفات الاقتصاديّة اليمينيّة المتطرّفة، التي تشجّع على تحجيم الدولة وتقليص الأدوار التي تقوم بها، بما في فيها الأدوار المتعلّقة بالسياسة النقديّة. مع العلم أن فكرة مجلس النقد تقوم على تجريد المصرف المركزي من جميع أدواره التقليديّة المتعلّقة برسم السياسات النقديّة، والتحكم بخلق النقد ومعدلات الفوائد، واستبدال هذه الأدوار بمجلس نقد يقتصر دوره على خلق النقد بقيمة موازية لاحتياطات معيّنة يملكها من العملات الأجنبيّة أو الذهب أو غيره.

في كل الحالات، حين حلّت الأزمة الماليّة على لبنان، رصدها هانكي جيّداً كفرصة للترويج لفكرته، وربما لشخصه ولدور استشاري مركزي، مماثل للأدوار الكثيرة الذي لعبها سابقاً في حياته، في الدول التي جلس على يمين حكامها وصاغ سياساتهم النقديّة، ووصل به الأمر إلى الإطاحة بحكام مصارف مركزيّة.

إختراق المشهد اللبناني
راقب هانكي أزمة لبنان جيداً من منظار مؤشّر التضخّم الشهير الذي يشرف عليه، والذي صار يختزل فيه جوهر الأزمة الماليّة اللبنانيّة. وطالما أنّ بارومتر الأزمة بالنسبة إلى هانكي هو التضخّم وهبوط سعر الصرف فقط، فالعلاج البديهي هو حكماً تقييد سلطة المصرف المركزي في خلق النقد، لا بل إلغاء الأدوار النقديّة التي يقوم بها، من خلال فكرة "مجلس النقد" التي يروّج لها. وبرز التبسيط الشديد الذي تتسم به مقاربة هانكي للمسألة اللبنانيّة في تصريحه الذي اعتبر فيه أن السياسي اللبناني الذي سينجح في تطبيق فكرة مجلس النقد في لبنان، سيكون بطلاً قومياً.

في كل الحالات، يبدو أن هانكي ولوبي الاقتصاديين اللبنانيين الذين يحاولون تسويق فكرته، بدأوا بتحقيق إختراقات وازنة على الساحة المحليّة، من خلال احتلال فكرتهم لحيّز كبير على وسائل الإعلام، في كل ما يتعلّق بالحديث عن المعالجات الاقتصاديّة المطلوبة. أمّا على المستوى الرسمي، وبالرغم من الشلل الذي يصيب مجلس النواب اليوم في ما يخص الملفّات الماليّة الداهمة، كان لدى لجنة الاقتصاد والتجارة والصناعة والتخطيط النيابيّة الوقت الكافي للاجتماع بهانكي، وسماع طروحاته المتعلّقة بمجلس النقد.

ويبدو أن الاقتصادي الماكر يعرف من أين تؤكل الكتف، فحرص على تسويق فكرته أمام النواب على أنّها تساعد بصورة إيجابيّة في مفاوضات لبنان مع صندوق النقد. وهو إدعاء غير دقيق، لكون الصندوق يحذّر من عدم إمكانيّة تطبيق هذه الفكرة بنجاح في جميع الدول، كما يحذّر من ضرورة معالجة الانهيارات المصرفيّة قبل المضي قدماً في تغيير السياسات النقديّة المعتمدة.

الاستعمار واستتباع السياسة النقديّة
فكرة مجلس النقد كانت نموذجاً شائعاً خلال الحقبة الاستعماريّة، حين كانت الدول المستعمِرة ترغب بمنح المستعمرات هامش من الاستقلاليّة الشكليّة عبر السماح لها بخلق عملتها الخاصّة، لكن دون أن تتمكّن الدول من إمتلاك أي قدرة فعليّة على صياغة سياسات نقديّة أو ماليّة خاصّة بها. ببساطة، كانت المستعمرات تملك الحق بالاحتفاظ بقدر معيّن من الاحتياطات بعملة البلد المستعمِر، مقابل خلق مجلس نقد يملك صلاحيّة طبع النقود بالعملة المحليّة بقيمة موازية لقيمة الاحتياطات التي يملكها.

وبذلك، كانت عملات المستعمرات المحليّة مربوطة بشكل محكم بعملات الدول المستعمِرة من ناحية قيمتها في سوق القطع. كما كان حجم السيولة الموجود في المستعمرات مرتبط بالسياسات النقديّة التي يتم اعتمادها في الدول المستعمِرة. أما الأهم، فهو أن المستعمرات لم تملك أي قدرة على تحديد سياسات خاصة بها من ناحية معدلات الفوائد، كون العرض والطلب على النقد محكوم بالسياسات التي تحددها المصارف المركزيّة في الدول المستعمِرة، ولم تملك المستعمرات القدرة على تحديد سياسات خاصة بها لتطوير أنظمتها المصرفيّة للسبب نفسه.

بعد حصول المستعمرات على استقلالها تدريجيّاً، بادرت بشكل تلقائي إلى التخلّي عن سياسات مجالس النقد التي فرضتها دول الاستعمار في السابق، لتنشىء مصارفها المركزيّة الخاصّة، ولتفرض سياساتها النقديّة على بلدانها. ولذلك انخفض عدد الدول التي تتبع نظام مجلس النقد من نحو 70 دولة في بدايات القرن الماضي، إلى نحو 14 دولة فقط اليوم. أما الدول التي استمرّت بتطبيق هذا النظام بعد انتهاء حقبة الاستعمار، فهي مناطق الحكم الذاتي التابعة للتاج البريطاني، كجبل طارق مثلاً، وبرمودا، وجزر سانت هيلينا وفوكلاند، وهي دول لم تسع إلى صياغة سياساتها النقديّة الخاصّة كونها تمتلك أساساً اقتصادات مستتبعة ومرتبطة بالمملكة المتحدة.

لاحقاً، اختارت بعض الدول الأوروبيّة التي لم تستبدل عملاتها باليورو أن تبقي على ربط عملاتها باليورو عبر مجالس نقد، للإنسجام مع السياسات النقديّة المعتمدة على مستوى الاتحاد الأوروبي والانتماء اليه كتكتّل مالي، كحالة الدنمارك مثلاً. فيما اختارت بعض الدول نموذج مجالس النقد ضمن مراحل انتقاليّة واستثنائيّة جدّاً، كحالة أستونيا وليتوانيا بعد استقلالهما وقبل اعتماد اليورو، أو في حالة المناطق الإداريّة التي لم ترغب بصياغة سياساتها النقديّة الخاصّة للارتباط بتكتلات ماليّة غربيّة كهونغ كونغ مثلاً. وفي كل هذه الحالات، لم تُعتمد تجربة صندوق النقد إلا في حدود الحالات الخاصة جدّاً التي فرضت استتباع السياسات النقديّة للخارج. أما في حالة الأرجنتين، فانتهت التجربة بكساد عظيم على المدى الطويل.

وهم الحل في لبنان
في الحالة اللبنانيّة، من الواضح أن تصوير مجلس النقد كحل سحري ينطوي على تبسيط شديد للأزمة التي تمر بها البلاد اليوم. فتطبيق مجلس النقد لا يقدّم أي أجوبة على مستوى الخسائر الحاصلة في ميزانيات كل من مصرف لبنان والمصارف التجاريّة، كما لا يقدّم أي أجوبة من ناحية الخسائر المتوقعة نتيجة تعثّر الدولة في سداد ديونها، وإعادة الهيكلة المتوقعة لهذه الديون. باختصار، من غير الواقعي تخيّل أن مجلس النقد سيتمكّن من معالجة أي جانب من جوانب الأزمة الحاليّة. ولهذا السبب بالتحديد أشار صندوق النقد –كما ذكرنا سابقاً- أن أي تغيير في السياسات النقديّة المعتمدة ينبغي أن يسبقه التعامل مع الخسائر القائمة في النظام المصرفي إذا كان هناك حالات تعثّر مصرفيّة.

لا بل يمكن القول أيضاً أن فكرة تطبيق مجلس النقد بالذات تتناقض مع الحلول المطلوبة في هذه المرحلة، لكونها ستعني ببساطة تجريد المصرف المركزي من جميع أدوات السياسة النقديّة الممكن استعمالها للمعالجة. في حين أن المعالجات المطلوبة تتطلّب استعمال هذه الأدوات بشكل فاعل لتوزيع الخسائر وإعادة هيكلة القطاع المصرفي، مع إبقاء خيار ضخ العملة أو التحكم بحجم الكتلة النقديّة حين تقتضي المصلحة العامة ذلك. مع العلم أن تطبيق نظام مجلس النقد، في ظل شح السيولة بالعملة الأجنبيّة، والعجز الضخم في ميزان المدفوعات، سيعني عمليّاً تجفيف الأسواق من السيولة، ومفاقمة الجانب الانكماشي من الأزمة، وزيادة التقلّص في الأجور ومستوى الدخل الفردي، مع ما يعني كل ذلك من زيادة الكلفة التي يدفعها عموم اللبنانيين جراء الانهيار الحاصل. أما أكثر ما يدل على عدم واقعيّة طرح الفكرة في ظل الانهيار الحالي، فهو أن نتيجة تطبيقها اليوم بالتحديد سيعني إفلاس الدولة بشكل كامل، بعد تجريد مصرف لبنان من قدرته على إقراضها عبر خلق النقد. والنتيجة هنا ستكون التوقّف عن دفع رواتب موظفي القطاع العام، وتوقّف جميع الخدمات العامّة بشكل تام.

لذا، فإن الوقت المناسب لطرح هذا النوع من الأفكار الجذريّة ليس اليوم، بل بعد التعامل مع الخسائر القائمة حالياً واستعادة الانتظام في عمل النظام المالي. مع العلم أن نقاشاً طويلاً ينبغي أن يُفتح عندها حول جدوى الفكرة وفعاليتها، خصوصاً أن تطبيقها سيعني انكشاف السوق المحلي بشكل كامل تجاه جميع المتغيرات والتحولات النقديّة في الخارج، كما سيعني إفقاد الدولة جميع الأدوات المتاحة لحماية الاقتصاد الوطني من تأثيرات السياسات الماليّة الخارجيّة. ففي هذه الحالة، ستصبح معدلات الفوائد، وحجم الكتلة النقديّة، ومستوى الودائع، جميعها متغيّرات خاضعة للسياسات التي تعتمدها المصارف المركزيّة الأجنبيّة. وهذه السياسات لن تنسجم بالضرورة مع متطلبات الاقتصاد المحلّي، ولا مع مصالح أصحاب الدخل المحدود في البلاد، بل قد تتناقض معها.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024