قبو القروض المدعومة و"التقريران السرّيان"

عصام الجردي

الإثنين 2018/07/30
عندما قرر حاكم مصرف لبنان رياض سلامة تبني سياسة نقدية غير تقليدية بدعوى تحريك الاقتصاد والنمو، كان يملك كثيراً من الحجية في ضوء التباطؤ الاقتصادي وتراجع النمو الذي ازداد وتفاقم منذ الحرب السورية 2011. وسننحي جانباً ربط البعض الأمر بانتخابات رئاسة الجمهورية. ولأن أهداف السياسة غير التقليدية "سامية ولمصلحة لبنان واللبنانيين"، فكان يفترض أن تكون حزم المال المدعومة التي ضخها مصرف لبنان في السوق منذ 2013 وبلغت نحو 9 مليارات دولار اميركي، جزءاً من رؤية اقتصادية حكومية شاملة، وخطة تنفيذية واضحة المعالم. طبعاً، هذه ليست مهمة مصرف لبنان منفرداً. بل ومجلس الوزراء ومجلس النواب.

ما تكشّف من تجاوزات جسيمة رافقت تنفيذ قروض الاسكان، كان جزءاً من الاختلالات الأجسم في التصدي للآزمة الاقتصادية والمالية والاجتماعية. والحقيقة إن التجاوزات هي أكبر مما نشر بكثير. ولم تقتصر على قروض الاسكان المخصصة لذوي الدخل المحدود، بل شملت ما يدعى بقروض الانتاج المحددة وجهتها للزراعة والصناعة والسياحة والمؤسسات الحرفية والبيئة وغيرها. وجزء كبير من تلك التسهيلات تم من احتياط المصارف الالزامي لدى مصرف لبنان بمقدار توجه القروض نحو القطاعات المستهدفة. هناك عشرات ملايين الدولار الأميركي حصل عليها رجال أعمال سياسيون وتجار كبار لا علاقة لها لا بالقروض الانتاجية ولا تحتاج إلى قروض اسكانية مدعومة الفائدة لا من مصرف لبنان ولا من خزانة الدولة. نورد دليلاً الى ذلك. أحد الناشطين من رجال الأعمال الذي يشغل رئاسة مؤسسة مختلطة ذات علاقة بالوضع الاقتصادي والاجتماعي حصل على قروض صناعية بنحو 3 ملايين دولار أميركي. كلّف أحد المصانع الصغيرة انتاج سلع معينة بقصد التجارة بها. بينما القرض المدعوم كان يفترض أن يذهب الى المصنع الصغير المنتج. هناك أهم تاجر ملبوسات في لبنان يحوز علامة تجارية هي الأشهر، حصل بدوره على قرض بالملايين. صاحب مصنع حديد مشهور حصل على قروض اسكانية مدعومة. قضاة ثلاثة حصل أحدهم على قروض ثلاثة. والسلسلة لا تنتهي. لا نذكر الأسماء، كي لا نسقط أخرى كثيرة سلكت الطريق نفسه. ولا تستحق البراءة.

هناك تقريران باتا جاهزين في مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف عن قروض الاسكان والقروض المدعومة. يفترض أنهما في حوزة رؤساء الجمهورية ومجلس النواب والحكومة. فليتفضلوا بنشر النتائج. وملاحقة من سهّل الحصول على قروض خلافاً لتعاميم مصرف لبنان بصرف النظر عن مسؤولية المصرف والمصارف المقرضة. إذ لا يمكن أن تمر تلك العمليات بلا علم الفريقين. ولا بدّ من استعادة الأموال من المتجاوزين مع الفوائد وملاحقتهم قضائياً. ونسارع الى القول، إن التسليفات والقروض والحسابات المدينة ليست مشمولة بالسرية المصرفية. غير ذلك، فلا تحدثونا عن وزارات لمكافحة الفساد ووزراء. ولا عن حق الوصول الى المعلومة وحماية كاشفي الفساد. هذا مال المكلف اللبناني أولاً وأخيراً.

ما هو مؤكد من دون الحاجة الى التقريرين الرسميين، أن مودعَين كبيرين حصلا على قروض سكنية لقاء ضمانة الوديعة. ويفترض تقديم المسكن ضمانة. هناك قروض أخرى توجهت نحو الاستهلاك وغايات أخرى لا صفة اجتماعية لها البتة. لكن ما لا نعلمه هو إذا ما كان مصرف لبنان طبق مضمون التعميم رقم 84. وفي إحدى فقراته نص صريح. "ﻴﺘﺤﻤل كل ﻤﺼرف ﻴﻤﻨﺢ ﻗروﻀﺎً للفئات المحددة في المادة السابعة من هذا القرار مسؤولية صحة تنفيذ استعمال القروض ومراقبتها وتطابقها مع الغاية الممنوحة من أجلها، تحت طائلة وقف الخفض (من الاحتياط الالزامي) في مقابل كل قرض ممنوح بطريقة مخالفة لأحكام المادة المذكورة. والزام المصرف المعني بدفع تعويض بمثابة بند جزائي بواقع 15% من قيمة القرض. بالإضافة الى ايداع احتياط خاص بما يوازي نسبة الخفض من الاحتياط الالزامي في مقابل هذا القرض لفترة توازي المدة التي استفاد منها من الخفض".

لقد بدأت كبريات المصارف المركزية في العالم مغادرة ما عرف منذ أزمة 2008 المالية السياسات النقدية غير التقليدية. ومن خلال التيسير الكمي (QE) تضخمت ميزانيات الاحتياط الفدرالي، والمصرف المركزي الأوروبي، ومصرف إنكلترا ومصرف اليابان المركزي بنحو 15 تريليون دولار اميركي في مقابل سندات وأصول للخروج من كارثة أكبر واستعادة الاقتصادات من براثن الركود والبطالة. وكانت أكبر عملية تأميم من دافعي الضريبة. بيد أن تلك السياسات لم تأت فرادى من المصارف المركزية. كانت محصلة قرارات حكومية كبيرة مدعومة بارادة سياسية وشعبية. تأخر حاكم مصرف لبنان كثيراً في اعلان خروجه من السياسات النقدية غير التقليدية. ليعود الى اعتبار القروض السكنية وغيرها مهمة الدولة. هذا الاعلان كان يتوجب من زمان ليضع المسؤولين في رئاسة الجمهورية ومجلس النواب والحكومة عند مسؤولياتهم. يعني رؤية اقتصادية واجتماعية وخطة تنفيذ لمشاريع في سياق أهداف نمو وتنمية. أوحى رياض سلامة أنه قادر على اجتراح العجائب. فنام المسؤولون والساسة على حرير المعجزات. بل وشاركوا في اقتسام المغانم. وازداد اللبنانيون فقراً وتعاسة. نكرر. الحفاظ على سعر صرف الليرة واستقراره مهمة جليلة لا جدال فيها. لكننا نشتري تثبيتها منذ عقدين ونصف عقد بمزيد من المال. بينما يتراجع الاقتصاد المنتج لأسلحة الدفاع عن النقد. من دون الاستهانة بالعوامل الظرفية المحلية والاقليمية التي لعبت دوراً مناوئاً للنمو وتلعب.

اليابان الدولة المدينة الأكبر في العالم بنحو 210 في المئة الى الناتج المحلي. مع ذلك، لا تُقرع فيها أجراس الانهيار. كل ذلك لأن الحكومة تبنت استراتيجية اقتصادية مع المصرف المركزي للانقاذ واستعادة النمو. ولم يثر الأمر حفيظة المصرف المركزي الذي يتمتع باستقلال عن الادارة السياسية. وهو من سعى الى تثبيت استراتيجية التعاون تلك. وباتت معروفة على نطاق واسع "آبينوميكس" معزوّة الى رئيس الحكومة شينزو آبي. أهم بنود الاستراتيجية الدمج بين متطلبات النفقات الحكومية والدين، وبين السياسة النقدية حزمة واحدة. والدفع في اتجاه التيسير الكمي لحفز الاقتصاد. والأهم طُراً، وجود دولة ورقابة وشفافية ومؤسسات تعمل لمصلحة اليابان واليابانيين. وليس لمصلحة أفراد رؤوسهم على أكتاف الشهرة والتشفي والدعاية.

نؤكد من جديد وجوب نشر التقريرين المتعلقين بالتحقيق في ملف القروض المدعومة وقروض الاسكان. علماً، أن قبو القروض والمساعدات الأوسع نطاقاً للبنان، ومفتاحه في يد "الناطور" لم يفتح بعد.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024