برلمانٌ عاثر وموازنة مُعسرة

عصام الجردي

الجمعة 2019/05/31

وصل مشروع قانون موازنة 2019 إلى مجلس النواب. في الأنظمة البرلمانية الديموقراطية، ودستورنا يقول أن نظامنا برلماني ديموقراطي، يفند مجلس النواب مشروع القانون ويدرسه ويدقق في وظيفة الموازنة وأهدافها الاقتصادية والاجتماعية، وفي الأولويات التي قطعتها الحكومة على نفسها في البيان الوزاري، التي حازت على أساسه ثقة مجلس النواب. لكن في وضع لبنان الذي يبحث منذ سنوات طويلة عن هوية واقعية لنظامه السياسي ومؤسساته الدستورية، لاسيما تلك المتعلقة بإدارة الدولة العامة والمال العام والموازنة ورقابتها، يحق لنا أن نعتبر أزماتنا المالية والاقتصادية والاجتماعية نتيجة خواء التوصيف السياسي لهذا النظام، بعد أن تعطّلت البرلمانية الديموقراطية بالكامل لمصلحة مسمّى "الوفاق الوطني" و"حكومات الوحدة الوطنية". وكان من نتائج ذلك تعطيل كنه النظام البرلماني الديموقراطي القائم على حكم الأكثرية ومعارضة الأقلية. وكلاهما قابل للتحول على خلفية قضايا ومشاريع أساسية، بعيداً من الإصطفاف الذي يحكم البلد على قاعدة تقاسم التكتلات النيابية الكبيرة المنافع وإدارة المؤسسات الدستورية، والهيمنة على القضاء سلطة مستقلة. فالسلطة المطلقة فساد مطلق. وطريق إلى انهيار ليس بالضرورة محدود بزمن معين، لكنه الطريق المؤدية إليه، قصُر الوقت أو طال. ونشعر مرة أولى، أن السند الطائفي والمذهبي للنظام السياسي اللبناني، لم يعد كافياً تحت وطأة الأزمات العميقة لإنقاذ نفسه بعد أن صدّع الدولة وركائزها.

خطب رنّانة
لم يكن إقرار الموازنة في مجلس النواب مشكلة في يوم من الأيام. لكن دور الرقابة البرلمانية كان معطلاً. مثال ذلك، كل الموازنات التي أقرها مجلس النواب لم تتحقق كما توقعت الحكومة. نفقات أكثر وإيرادات أقل. فتحول العجز وصفة دائمة. دور مجلس النواب الرقابي غاب تماماً. حتى اذا توقفت قطوع حسابات الموازنة منذ 2005، ومعها حسابات الدولة منذ 1993، خرِب الوضع المالي، وبدأت نذر الانفجار تتكوم فوق السطح. لماذا لم يقم مجلس النواب بدوره الرقابي سنة بسنة؟ هنا يكمن صلب الأزمة ولبّها. وعلى هذا المنوال سينسج مجلس النواب موازنة 2019.

أسوأ ما يؤدي إليه غياب الدور الرقابي لمجلس النواب، لمحاسبة الحكومة، هو تعطيل مؤسسات الرقابة الدستورية والقضائية والمالية والوظيفية الأخرى. وهي مؤسسات يفترض أن تعمل من خارج الإصطفافات السياسية. غياب النظام البرلماني الديموقراطي يخضع تلك المؤسسات بالكامل لهيمنة النظام السياسي. لذلك، حين سيبدأ مجلس النواب مناقشة مشروع قانون موازنة 2019، فسيناقش ورقة أعدها زعماء الكتل النيابية المهيمنة على الحكومة. الخِطب الرنانة ستعبر عمّا لم تنله تلك الكتل من وليمة الموازنة في مجلس الوزراء. ليعود مجلس النواب ويصدرها بقانون مشوب بعيوب دستورية وبتوقعات لا يقبلها عاقل. مرة ثالثة نقول، أن رقم العجز المقدّر إلى الناتج 7.59 في المئة يحتاج إلى تقدير الناتج نفسه في 2019. الحكومة تعلم الأمر لكنها لا تريد مقاربته. لأن الموازنة افتقدت وظيفتها لزيادة النمو والناتج.

الدلائل الفاقعة
كل قطاعات الدولة المعنية بإيرادات الخزانة ورقابة الحسابات المالية والتوظيف في القطع العام تعاني شغوراً. هل صدفة أن المؤسسات العاجزة مالياً التي تستنزف الموازنة، وتركب العجز والدين والفوائد، لا تتحرك لزيادة مواردها المالية وتعاني شغوراً بالأكفياء والقطاع العام يفيض بالمتقاعدين؟ نسوق بعض الدلائل الفاقعة.

وزير المال قرر تكليف البلديات إبلاغ الوزراة بالمؤسسات العاملة في نطاقها، كي تخضعها للسجل التجاري والقيود الرسمية وتكلفها ضريبة. أمر جيد. لكن المؤسسات المكتومة العاملة خارج التكليف الضريبي بعشرات الآلاف مفتوحة للجمهور وتعمل علانية. أين منها رقابة وزارة المال؟ هل هناك أفدح من فضيحة الكهرباء في تاريخ لبنان؟ تصوروا أن مؤسسة كهرباء لبنان لا تلبي آلاف طلبات الإشتراكات الجديدة. شركات تقديم الخدمات لا تقوم بعملها. ثم فجأة تركب فواتير على المستهلكين بمفعول رجعي بالملايين دفعة واحدة.

أما الأغرب ففي ديوان المحاسبة. أي السلطة القضائية لرقابة حسابات المالية العامة. هناك ستة قضاة عاملون من أصل خمسة وعشرين تحتاجهم الهيئة. كل قجّة المالية العامة في هذا المكان. والموازنات وقطع الحسابات وحسابات المهمة وغيرها. لماذا الشغور في هذا المكان وهو مفتاح المال، ورقابته وصرفه، واعتمادات المشاريع وكل شيء؟ أحيلت إلى المجلس محفظة الحسابات المالية العامة من 1993 حتى سنة 2017، بأمل المخرج من تجاوز الدستور توالياً في كل سنة موازنة من دون قطع حسابات السنة السابقة. قطع حساب 2017 غير جاهز. ولا قطع حسابات 2018. من جديد نحن أمام مخالفة دستورية لو أقر مجلس النواب موازنة 2019 بلا قطع حساب. ديوان المحاسبة يقول أن كل سنة مالية تحتاج إلى شهور أربعة لإنجازها. له ذلك بلا جدال. حقه يملي عليه المصادقة على الرقم الصحيح لنفقات الدولة، وحساباتها، وموزاناتها. واجبه يملي أيضاً. السلطة السياسية تعلم الشغور في ديوان المحاسبة. وتغرقه بملفات مالية من هبّ ودبّ، مشوبة بكل العيوب والفساد وإهدار المال العام. وتطلب اليه بما تيسّر غسل ما علق بها من أدرانها ومثالبها!

مجلس الخدمة
نأتي إلى مجلس الخدمة المدنية. لن نتوقف عند الشغور هناك، بل وعند تعامل السلطة السياسية مع هذه المؤسسة التي تعتبر ممراً إلزامياً للوظيفة في الإدارة العامة، واختباراً للجدارة. العابرون بنجاح من الموارد البشرية اللبنانية يسقطون في فخ عدم الجدارة الطائفية والمذهبية. والدستور لا يقول بذلك. فلا يوظَفون رغم الشغور. وفي المقابل، يتم التعاقد خلسة وخلافاً للقانون وقرارات مجلس الوزراء مع آلاف الموظفين قبل الإنتخابات النيابية الأخيرة. كم عانت سلسلة الرتب والرواتب لتعبر قانوناً في 2017؟ والمشكلة كانت في التمويل. قوى السلطة السياسية نفسها التي حشرت زبائنها بالتعاقد. فارتفعت تكلفة السلسلة من 1800 مليار ليرة لبنانية إلى نحو 2800 مليار. ويتردد أن سداد رواتب المتعاقدين يتم بطريقة مواربة. وترسل جداولهم إلى وزارة المال متعهدي خدمات! والقانون 46 لم ينفّذ إلاّ في القطاع العام. وجاء تنفيذه منقوصاً في قطاع التعليم الأساسي والثانوي. ثم عادت الحكومة لترتد على معاشات التقاعد والمنح المدرسية والتقديمات الصحية في الأسلاك العسكرية والمدنية وملاحق الأجر ومكاسبه في مؤسسات غير خاضعة لقانون الموظفين. وعلى مكاسب القضاة. وتتبجح: "ألم نقل أن الرواتب والأجور لن تًمس في الموازنة. كلها كانت شائعات".. ذكية السلطة. الناس بلهاء! الحال نفسها في التفتيش المركزي. شغور هائل في المفتشين، والتفاف على إدارة المناقصات والباقي معروف.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024