انشطار العونيين والباسيليين: شروط صندوق النقد أم مصالح المصارف؟

علي نور الدين

الثلاثاء 2020/11/17

بين ماري كلود نجم وغادة شريم من الوزراء المحسوبين على رئيس الجمهوريّة، وإبراهيم كنعان ومن يدور في فلكه من نواب تكتّل لبنان القوي، انشطر التيار بين فريقي عمله الوزراي والنيابي على خلفيّة مستجدات ملف التدقيق الجنائي، وخصوصاً بعد السجال الحاد بين الطرفين الذي خرج إلى العلن على وسائل التواصل الاجتماعي.

في لجنة المال والموازنة، يعتبر كنعان أن حلم التدقيق الجنائي بأسره لم يكن واقعيّاً، لتناقضه مع ما ينص عليه قانوني السرّية المصرفيّة والنقد والتسليف، فيما تشدد ماري كلود نجم على عدم قانونيّة إدعاءات كنعان التي تنسجم مع الحجج التي قدّمها رياض سلامة للتملّص من التدقيق الجنائي.

لكن بمعزل عن إدعاءات الطرفين في ملف التدقيق الجنائي، يمكن القول أنّها ليست المرّة الأولى التي تنشطر فيها مواقف الطرفين على هذا النحو، حتّى أنّه يمكننا القول أن التيّار تحوّل خلال السنة الماضية إلى جزر ومراكز نفوذ مختلفة يحمل كلّ منها أولويّات متباينة، فيما يبدو الفرز الأهم بين كل هذه الأطراف متركّزاً حول سؤال واحد: هل نقف مع إصلاحات صندوق النقد أو مع المصارف؟

فريق صندوق النقد
منذ البداية، حملت ماري كلود نجم شروط صندوق النقد الإصلاحيّة على كتفها كما هي، ودخلت الحكومة. حين طُرح ملف الكابيتال كونترول للمرّة الأولى على طاولة مجلس الوزراء ناضلت لأجله. لا بل عملت على صيغة معدّلة من مسودّة مشروع القانون حين تبيّن أن وزير المال يتحضّر لمناورة سحب مسودّة مشروع القانون عن طاولة المجلس، رغم أن هذا الملف لا يقع في صلب مهام وزيرة العدل. لكنّ رئيس الحكومة حسان دياب فضّل في ذلك الوقت عدم الدخول في مواجهة مفتوحة مع رئيس المجلس النيابي، الذي ألقى فتوى التحريم على فكرة مشروع القانون، فذهب جهد نجم أدراج الريح ولم يتم التصويت على أي صيغة من الصيغ المطروحة على طاولة الحكومة. في كل تلك المعمعة، تُركت نجم وحيدة. فلم يقدم رئيس الجمهوريّة على تحريك الملف لاحقاً في مجلس الوزراء، فيما ناور تكتّل لبنان القوي بالإعلان عن التفاهم مع برّي على صيغة جديدة ركيكة لمشروع القانون، قبل أن يتبيّن أن الهدف النهائي هو دفن الملف في لجنة المال والموازنة.

في هذا المسار، لم تجد نجم سنداً لها سوى حليفتها الأقرب في جناح صندوق النقد داخل فريق عمل التيّار، التي لم تكن سوى وزيرة المهجّرين غادة شريم، التي رفعت في مرحلة من المراحلة النبرة متحدّثة عن جهات معروفة "ترفض الكابيتال كونترول وتعرقل إقراره".

حين جرى طرح ملف التدقيق الجنائي على طاولة مجلس الوزراء، هرعت نجم للحديث عن مجموعة من التعديلات القانونيّة على طاولة مجلس الوزراء، لتسهيل عمل شركة التدقيق لاحقاً، وتذليل أي عقبات قانونيّة يمكن أن يتحجج بها مصرف لبنان لعرقلة هذا التدقيق. وبعد أن تبيّن لها صعوبة هذا الأمر، ذهبت إلى هيئة التشريع والإستشارات، واستحصلت على مجموعة من التعديلات المقترحة على العقد لزيادة احتمالات نجاح التدقيق. ومن بين تلك التعديلات المقترحة، كان مقترح ضم مجموعة أغمونت إلى العقد لفرض امتثال المصرف المركزي لطلبات شركة التدقيق. في كل هذا المسار، كان وزير الماليّة يتلقّى المقترحات، ثم كانت النتيجة تجاهل كل تلك الملاحظات عند صياغة النسخة الأخيرة من العقد، فيما لم يبادر رئيس الجمهوريّة إلى التدخّل بشكل صارم رغم أنّه اطلع من وزيرالماليّة على النسخة الأخيرة من العقد قبل إقراره.

في كل هذه المسارات، كانت نجم وشريم تستفيدان من كونهما جزءاً من جناح داخل التيار الوطني الحر يميل إلى تفضيل التفاهم مع صندوق النقد، على حساب مصالح المصارف وأصحابها. كان وجود شربل قرداحي، مستشار رئيس الجمهوريّة وعضو الوفد اللبناني المفاوض مع الصندوق، أحد امتدادات هذا الجناح المساند لهما، رغم أن هذا الواقع لم ينفع في دفع رئيس الجمهوريّة إلى تبنّي إستماتتهما لهذا المشروع، بفضل وجود أجنحة مضادة داخل التيار الوطني الحر، تدفع بالاتجاه المعاكس. مع العلم أن وزير الاقتصاد والتجارة، راوول نعمة، وقف في معظم المحطات إلى جانب هذا الجناح أيضاً، كما دافع بصراحة عن الخطّة الماليّة التي صاغتها شركة لازارد، ووقف في وجه جناح المصارف داخل التيار. لكنّ نعمة لم يتمتّع بالشراسة التي تمتّعت بها كل من شريم ونجم.

باسيل وأطماعه الشخصية
في كل هذه الأحداث، أمسك باسيل بالعصا من المنتصف. استفاد من نجم وشريم وقرداحي ومن يدور في فلكهم للتلويح بالعصا الغليظة في وجه رياض سلامة، الذي لطالما خشي معسكر صندوق النقد المندفع نحو قضايا كالتدقيق الجنائي وقوننة الكابيتال كونترول وفرض الاعتراف بالخسائر على مصرف لبنان والمصارف التجاريّة. كما حاول باسيل من خلال معسكر صندوق النقد المقيم داخل فرق عمله التعجيل بالإطاحة بسلامة، رغبةً منه بوضع اليد على الموقع الماروني الذي يمسك بزمام السلطة النقديّة في البلاد، مع ما يتبع لهذا الموقع من نفوذ في مؤسسات أخرى مربحة كشركة طيران الشرق الأوسط والكازينو وغيرها، وما تملكه هذه الشركات من قدرة على توفير الخدمات والوظائف للمحازبين والأنصار.

لكنّ باسيل، ومع استفادته من جماعة صندوق النقد في الصراع مع سلامة، لم يذهب في أي من معارك هذه الجماعة حتّى النهاية. تحدّث عن ضرورة الكابيتال كونترول، لكنّه هندس مع إبراهيم كنعان مخرج إحالة الملف إلى لجنة المال والموازنة لدفنه. أقرّ باسيل بأهميّة الخطة الماليّة التي صاغتها الحكومة مع لازارد، وحاول بذلك استرضاء الأطراف الدوليّة التي كانت تلح على تنفيذ هذه الخطّة، لكنّه لم يحرّك ساكناً بينما كان نوابه يجوبون المجلس النيابي لإسقاط الخطّة. وعلى هذا النحو أيضاً، طار التدقيق الجنائي من دون أن يبذل باسيل الكثير من الجهد لتحريك نوابه داخل المجلس، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من هذا المسار. باختصار، لدى باسيل حساباته دائماً: فلا هو يرغب بالانقلاب على معسكر المصارف في البلاد، مع ما يملكه هذا المعسكر من نفوذ وسطوة، ولا هو راغب برفض الإصلاحات وإثارة سخط الجهات الدوليّة التي تراقب عن كثب تطوّرات الملف اللبناني، وخصوصاً الفرنسيين الذين دخلوا على الخط بقوّة مؤخراً.

إنشطار التيّار
استخدم باسيل ببراعة خيطيّ اللعبة، بين مسايرة إبراهيم كنعان للمصارف ومصالحها في المجلس النيابي، وابتزاز حاكم مصرف لبنان بمعسكر صندوق النقد. في المحصّلة، سقط التدقيق الجنائي، وطارت خطة لازارد، ولم يتم إقرار قانون الكابيتال كونترول. وباختصار أيضاً، كانت عصبة المصارف في المجلس النيابي أقوى من اللوبي الذي سار خلف مشروع صندوق في التيار وخارجه، خصوصاً أنّها كانت عصبة عابرة للكتل النيابيّة. لكنّ الإنفصام في سلوك التيار بين مجلس الوزراء والمجلس النيابي، سرعان ما تحوّل إلى إنشطار كبير، خصوصاً بعد أن بلغ الخلاف حد تراشق التغريدات العلني بين نجوم التيار في المجلس النيابي وصقور صندوق النقد في الحكومة. هكذا، باتت المصالح الشخصيّة لأجنحة التيار أقوى من السطوة التي كان يستطيع باسيل فرضها على الجميع للامتثال لإيقاع واحد في العمل.

النتيجة التلقائيّة لهذه التطوّرات اليوم هي تحوّل فرق عمل التيار إلى مراكز قوى لا يجمعها أجندة أو هدف مشترك، بل تتلاطم بين المصالح المختلفة، فيما يوحّد قيادتها حلم الرئاسة وما يستدعيه هذا الحلم من توفيق بين المكونات المختلفة والمتناقضة. ولهذه الأسباب، على المستوى الشعبي، سيصعب على ما تبقى من عونيين أن يحددوا رؤية أو حتّى توجّهاً مالياً أو اقتصاديا ما، يعبّر عنه تيّارهم، رغم أن هذا النوع من الإشكاليّات هو ما سيحدد مستقبل البلاد في هذه المرحلة بالذات. مع العلم أن هذا القدر في التناقض بين فرق العمل والتوجّهات لا يمكن العثور عليه في الأحزاب الأخرى. وحين تضيع البوصلة إلى هذا الحد، يمكن عندها التساؤل عن مستقبل الحالة العونيّة نفسها.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024