"المدن" تنشر مقالتيّ الإيكونوميست ورأي الاقتصاديين بالدعوى القضائية

عزة الحاج حسن

الجمعة 2019/10/11
من الواضح أن المحامين المدّعين على مجلة "The economist" الاقتصادية العالمية بتهمة الإضرار بالسمعة والمكانة المالية للدولة اللبنانية لا يفقهون شيئاً من عِلم الإقتصاد. ولم تحظَ الأرقام والمؤشرات المالية في لبنان باهتمامهم، قبل خوضهم في معركة "كرامة" أو "هيبة" بوجه مؤسسة صحافية عالمية.

لو أن المدّعين تمهلوا بالدعوى ريثما يطالعون بعض التقارير المحلية قبل الأجنبية، لتيقّنوا أن جُلّ ما أتت مجلة الإيكونوميست على ذكره ليس سوى غيض من فيض ما يُعلن على ألسنة المسؤولين والصحافة المحلية عن الواقع المالي والنقدي المتأزم في لبنان. ولكانوا عدلوا بالطبع عن فكرة الدعوى التي لم يتردد خبراء المال والاقتصاد بوصفها بـ"التافهة".

كما لم يلتفت المحامون الذين تقدموا بالإخبار إلى النيابة العامة للإساءة التي وجّهوها بأنفسهم إلى سمعة لبنان، لجهة احترام حرية الرأي والتعبير وحرية الصحافة، فكيف يمكن أن ندّعي ما نفتقده في ظل هكذا سلوكيات، وكيف يمكن أن ندّعي حماية الحريات في حين أن بعض محامينا من حراس القانون يعمدون إلى مقارعة الحُجّة بالتصادم وبالدعاوى القضائية بدل مقارعتها بالحجة المضادة.

لن نستعرض حقيقة الواقع المالي، وصوابية ما أتت على ذكرته الإيكونوميست باستثناء التبشير بالانهيار الحتمي المبالغ فيه.. فنحن كصحافيين اقتصاديين بِتنا أحد عناصر "تشويه السمعة المالية للدولة" في نظر رجال العهد. لذلك، نستطلع آراء عدد من خبراء المال والاقتصاد مختلفي الأطياف لنصل إلى نتيجة تتجاوز بواقعيتها ما عرضته الإيكونوميست في مقالها، وتفضح "تهافت" الإخبار المقدّم أمام النيابة العامة التمييزية، وتؤكد بالتالي أن هدف تقديم المحامين الإخبار بحق المجلة قد لا يتجاوز ربما محاولة الترويج لأسمائهم تعويضاً عن حملة دعائية يمنعهم القانون من إجرائها، حسب تنظيم أصول مهنة المحاماة.

الحقيقة المهينة
الدعوى المقامة بحق مجلة الإكونوميست بتهمة إهانة السمعة والمكانة المالية للدولة اللبنانية هي دعوى "سخيفة" أمام الحقيقة المهينة التي تخفيها الأرقام المالية والواقع النقدي في لبنان. بهذه العبارة اختصر الخبير الاقتصادي والأستاذ الجامعي إيلي يشوعي هذه المبادرة. واستغرب في حديث إلى "المدن" ما استندت عليه الدعوى بحق المجلة وقال: "لو كان المحامون المعترضون واعين لكانوا وجّهوا اعتراضهم إلى مَن أوصل البلد إلى الوضع الاقتصادي المنحدر الذي تطرّقت إليه المجلة".

وعلّق يشوعي على صورة العلم اللبناني التي أرفقتها المجلة مع المقال واعتبرتها الدعوى صورة مهينة فقال: أنا كمواطن لبناني لم أشعر بالإهانة من صورة العلم، بقدر ما أشعر بالإهانة عندما أتنشّق رائحة النفايات خلال تجوالي في الشوارع، وأشعر بالإهانة والاستهتار بحقي كمواطن عندما أسير في شوارع غير مؤهلة للسير، وأشعر بالإهانة أيضاً عندما يعمد مصرف لبنان إلى تأمين الدولارات للخبز والدواء والبنزين فقط. وكأن حاجات المواطن تقتصر فقط على الأكل والدواء.. هذه هي الإهانة الحقيقية. داعياً المحامين إلى البناء على السبب وليس على النتيجة.

سياسة خطيرة
ما نشرته الإيكونوميست لا يستدعي رفع دعوى في وجهها، وما حصل لا يمكن وضعه سوى في إطار سياسة كم الأفواه. وهو ما وصفه الخبير الاقتصادي والأستاذ الجامعي لويس حبيقة في حديث إلى "المدن" بـ"الخطير جداً. إذ أن المجلة البريطانية ترجمت الواقع اللبناني كما هو وإذا كان من مبالغة في طرحها للملف الإقتصادي، فذلك مرده إلى مبالغة اللبنانيين بعرض الواقع المتأزم". وحسب حبيقة، "كان من الممكن أن يُعالج الأمر برسالة توضيحية الى المجلة، بدل رفع دعوى وتكريس سياسة كم الأفواه وحصر حرية التعبير بالأصوات التي تمدح السلطة ولا تنتقدها".

مضحك مبكٍ
هل المحافظة على سمعة لبنان المالية تتم عن طريق الدعاوى القضائية؟ سؤال طرحه الخبير الاقتصادي والأستاذ الجامعي جاد شعبان. ورأى أن ما عرضته مجلة الإيكونوميست لا يتناقض مع الواقع المالي في البلد، إلا أنها دقت ناقوس الخطر بطريقة صادمة: "ورغم ذلك لا شيء يبرر الدعوى في وجهها. وما حصل أمر مضحك ومبكٍ في الوقت نفسه. إذ يبدو أن هناك محاولات لإشاعة نزعة توتاليتارية في البلد تستهدف حرية التعبير".

وإذ يرى شعبان أن الدعوى تمثّل خطأ استراتيجياً لمن يعتبرون أنفسهم في مصاف المدافعين عن سمعة لبنان، يسأل: كيف يمكن أن نقارع الحُجّة بالشتيمة بدل مقارعتها بالحُجج وبالعقل.

مقالة الإيكونوميست 5 تشرين الأول


وكانت مجلة إيكونوميست نشرت مقالة قبل أيام، عن الأزمة المالية والنقدية في لبنان، تحدثت فيه عن أزمة شح الدولارات في لبنان، وعن توقف أجهزة الصراف الآلي عن صرف الدولارات. مشيرةً إلى أن المصارف اللبنانية خفضت حدود السحب إلى ألف دولار يومياً وفرضت قواعد تعسفية، مثل حظر المعاملات بالدولار بعد الساعة 5 مساءً وفي عطلات نهاية الأسبوع.

ووفق المقالة، دفعت هذه الإجراءات القاسية، الشركات على الدخول إلى السوق السوداء، حيث يبلغ سعر الدولار الآن 1600 ليرة لبنانية، وقد وصل الدولار أحياناً إلى حدود 1750 ليرة. ومع أن الحكومة اللبنانية تصر على أن الوضع تحت السيطرة. فإن قيمة مثل هذه التطمينات تنخفض تقريباً بسرعة انخفاض الليرة اللبنانية.

أول من يعاني هي الشركات التي تحتاج إلى العملة الصعبة. فمحطات البنزين، على سبيل المثال، تبيع الوقود بالليرة ولكن تشتريه بالدولار. وقد أعلنت محطات الوقود وأصحاب الصهاريج في 26 أيلول الماضي الاضراب المفتوح لمدة قصيرة، ما أدى إلى تهافت غير مسبوق وزحمة سير كثيفة بسبب اكتظاظ السيارات على محطات الوقود. كما حذر تجمع أصحاب المطاحن في لبنان من أزمة رغيف تلوح في الأفق بسبب تعذر أصحاب الأفران عن سداد ثمن القمح بالدولار.

وأصدر مصرف لبنان في 30 أيلول الماضي تعميماً ينظم توفير الدولار للمصارف لتأمين عمليات الاستيراد ضمن آلية محددة تقوم على فتح اعتمادات بالدولار لتأمين العملة الصعبة للمستوردين عبر المصارف التجارية، وهذا ما يعني عملياً فتح الباب أمام سوقين لسعر الصرف. وهنا لا بد من القول إن نقص الدولار ليس بالضرورة أن يكون خبراً سيئاً، فهو يسهم بتخفيف الواردات ويقلل عجز الحساب الجاري، الذي كان يبلغ 25 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي اللبناني العام الماضي. لكن وللأسف، في حالة لبنان، سيكون الأمر مؤلماً، كون هذا البلد الصغير يعتمد كثيراً على السلع المستوردة.

بلغت احتياطات مصرف لبنان الأجنبية 37 مليار دولار في نهاية تموز الماضي. لذلك لا ينبغي أن تواجه الدولة اللبنانية مشكلة في تمويل الواردات الأساسية التي تتراوح قيمتها بين 4 و5 مليارات دولار سنوياً. ومع ذلك، فإن الاحتياطات بدأت تُستنزف بسبب التزامات مصرف لبنان. وللحفاظ على ربط العملة، يقوم المصرف المركزي باقتراض الدولار من البنوك التجارية بأسعار أعلى من السوق.

كان هذا الترتيب قابلاً للتطبيق منذ بضعة سنوات. وحققت المصارف اللبنانية، التي يسيطر عليها السياسيون وأقاربهم، أرباحاً جيدة. ولكن مع انخفاض تدفق الودائع إلى البنوك التجارية، والفشل في جذب الدولارات. تستمر المصارف اللبنانية في إقراض الأموال إلى المصرف المركزي، حيث يوجد حوالى 57 في المئة من إجمالي موجودات القطاع المصرفي الآن في المصرف المركزي، مرتفعةً من 51 في المئة قبل عام، وهو أعلى مستوى منذ عشر سنوات.

تحتاج البلاد، حسب المجلة، إلى نمو اقتصادي وعجز أقل. وهذا من غير المحتمل أن يحدث. إذ أن موازنة 2019 التي أُقرت في تموز الماضي واستهدفت تخفيض العجز إلى 7.6 في المئة تضمنت بعض الأرقام المغلوطة، وقد قدر المركز اللبناني للدراسات، أن 46 في المئة من التخفيضات في الإنفاق تأتي من تأجيل المدفوعات للمقاولين. كما لم تحرز الحكومة سوى تقدم ضئيل في تقليص القطاع العام المتضخم أو خفض الدعم لشركة الكهرباء الحكومية الذي يبلغ ملياري دولار في السنة.

لطالما هبت دول الخليج الغنية إلى مساعدة لبنان، أما اليوم فهي أقل سخاءً. وهذا يعود إلى الإحباط من حكومة لبنانية يُنظر إليها على أنها تتسامح بشدة مع حزب الله. كما لا بد من الإشارة أنه تم تجميد حزمة مساعدات دولية بقيمة 11 مليار دولار (معظمها في شكل قروض ميسرة) تم الاتفاق عليها العام الماضي حتى ينفذ لبنان الإصلاحات الموعودة.

كل هذا يتزامن مع الصعوبات التي تعانيها الحكومة اللبنانية في اجتذاب رؤوس الأموال، وقيام وكالة فيتش للتصنيف الائتماني بتخفيض تصنيف لبنان الائتماني من B- إلى CCC ما يزيد من المخاطر على قدرة الحكومة على خدمة الديون، ووضع وكالة موديز للتصنيفات الائتمانية تصنيف لبنان في درجة منخفضة أيضاً. وتخلص المجلة للقول، أنه وكما هو الحال دائماً، فإن أمراء الحرب الذين يديرون لبنان منشغلون بالمشاحنات. وبينما شعر رئيس الوزراء سعد الحريري بالحرج من تقرير لصحيفة نيويورك تايمز الأميركية يكشف أنه قدم 16 مليون دولار لعارضة أزياء جنوب أفريقية بالعملة الأميركية، لم يعير اهتماماً لتسريح مئات الموظفين من شركاته هذا العام أو التأخر في دفع رواتبهم.

مقالة 30 آب أيضاً
وكانت المجلة البريطانية قد ذكرت في عددها الصادر في 30 آب 2018، من أن السياسات النقدية المُتبعة غير قابلة للاستدامة، وأن أي انهيار في قيمة سعر الصرف سيكون مؤلماً. وأضافت أن الانهيار الاقتصادي قد يؤدي إلى زعزعة الاستقرار في بلد يعج باللاجئين وتلازمه الانقسامات الطائفية. وتناولت حينها المجلة، القطاعات الثلاثة التي يقوم عليها الاقتصاد اللبناني، وهي السياحة والعقارات والمصارف، للدلالة على عمق الأزمة التي يواجهها لبنان، والتي قد تؤدي إلى انهيار اقتصادي. ورأت أن القطاع العقاري، هو الأكثر إثارةً للقلق نتيجة تراجع عدد رخص البناء في النصف الأول من عام 2018 بنسبة 9 في المئة وانخفاض البيوعات العقارية بنسبة 17 في المئة خلال الربع الأول من العام نفسه.

وعن القطاع المصرفي، أشارت الصحيفة حينها أن أرقام المصرف المركزي مضلّلة. إذ أنه يقوم باقتراض العملات الأجنبية التي تحملها المصارف، واستعمالها للحفاظ على ربط سعر الصرف، في مقابل حصول المصارف على عوائد هائلة، معتبرةً أن ساسة لبنان حقّقوا ثروة من الفقّاعة المصرفية ويقومون بتعويم مخططات خيالية.

في الخلاصة، يبدو تقرير المجلة البريطانية الذي صدر منذ أيام واقعياً إلى حدٍ ما، متحدثاً عن الفساد والهدر، واعتماد الدولة اللبنانية بشكل مفرط على الاستيراد، ما تسبب بعجز كبير في ميزان المدفوعات. كما أنه تحدث عن واقع نعيشه يعكس غياب الرؤية الاقتصادية عند الطبقة السياسية في موازنة 2019، والبطء في تنفيذ الإصلاحات حتى اليوم. وعلى عكس التقرير الصادر عام 2018، لم تشكك المجلة بالاحتياطات الكبيرة لمصرف لبنان (مقدرةً الرقم بـ37 مليار دولار حتى تموز، مقابل 38.5 مليار دولار حسب الأرقام الصادرة في لبنان مؤخراً بعد وديعة الـ1.4 مليار دولار التي أمنتها مؤسسة غولدمان ساكس غروب) إنما اعتبرت أن الاحتياطات بدأت تتراجع، لأن المصرف المركزي بات يتحمل مسؤوليات هي من واجب الدولة، ولا يستطيع أن يكمل في دعم العملة الوطنية مع كل هذا التفلت.
(ترجمة ملخص المقالتين: سامي خليفة)

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024