مدير عام "المالية" يكشف أسباب الانهيار وخراب القطاع العام

مريم سيف الدين

الإثنين 2019/05/20

فيما تطرح موازنة العام 2019 نفسها على طاولة مجلس الوزراء، وعلى سفرة المواطن، مهددة بقضم لقمته. وفي ظل الإضرابات التي تشهدها مختلف القطاعات، والتلويح المستمر بانهيار اقتصادي، أقامت مبادرةcoffee &politics  ندوة حوارية مع مدير عام وزارة المالية، آلان بيفاني، بعنوان: وزارة المالية نظرة من الداخل. لكن بيفاني أعلن منذ البداية رفض الحديث عن الموازنة لأنها "تحت سرية مطلقة، بما أنها لم تخرج من مجلس الوزراء". وخلال الندوة، التي دامت حوالى ساعتين ونصف، شرح بيفاني حال الإدارات العامة، وسبب ضياع المسؤوليات. وأصغى إلى أسئلة الجميع برحابة وبشاشة.

الانتقال إلى الجمهورية الثانية
ويظهر مما عرضه المدير العام لوزارة المالية أن دور العاملين داخل الوزارة "محاسباتي" أكثر منه تخطيطي، "فالموازنة تتبلور داخل مجلس الوزراء". ويلاحظ بيفاني، كما كل الناس، ارتفاع الفوارق الاقتصادية بين المواطنين. ويدرك أن واجب الدولة، التي يمثلها، أن تخفف هذه الفوارق. لكنه يعترف بأن هذه الدولة "باتت عامل لمركزة الأموال بأيدي بعض الناس". ويأخذ المدير، الذي يواجه اتصالات الناس وأسئلتهم، قلقهم "الناتج عن قلة فعالية أجهزة الدولة" بكثير الاعتبار. لكنه وفي الآن عينه يرى من المبكر توقع الخيبة التامة، إذ "باتت تطرح قضايا بنيوية. وباتت التوقعات مرتفعة لأن الأوضاع مؤلمة".

يشرح المدير العام أسباب ضعف الإدارات العامة وضياع المسؤوليات، ويذكر مشكلتين تترجم صعوبة العمل في المال العام: "الصعوبة الأولى، كانت في الانتقال إلى الجمهورية الثانية، حين وضع دستور متكامل على المستوى السياسي وعلى مستوى المؤسسات الأساسية. لكن وفيما خص الإدارات العامة ما دون هذه المؤسسات، فلم يحدث الانتقال من دستور الى آخر". ويروي بيفاني أن في الجمهورية الأولى، كانت تكمن قوة التفتيش المركزي برفع تقريره إلى رئيس الجمهورية، الذي يملك صلاحية إقالة الوزير المخالف. أما اليوم فحتى إن رفع التفتيش المركزي تقريراً إلى رئيس الجمهورية فلا يمكنه إقالة وزير. وكذلك حال رئيس الحكومة. وحتى القضاء لا يمكنه أن يطال وزيراً. وهو ما سبب نوع من الهوة بين مؤسسات قائمة ونظام تغيَّر. ويتطلب الأمر تصحيحاً لهذا الوضع، وفق بيفاني. أما المشكلة الثانية التي يذكرها فهي إلغاء الفصل بين السلطة الإدارية والسلطة السياسية. فالإداري كان مسؤولاً عن إدارته، يعاقب في حال لم يحسن إدارتها. وكان السياسي مسؤولاً عن السياسة العامة في القطاع الذي يتولاه. لكن "منذ أن أصبح السياسي رأس الإدارة، بات الإداري يقول: فشلت الإدارة لكنها ليست مسؤوليتي، وإنما هي مسؤولية السياسي. وبدوره بات السياسي يقول بأن إدارته لا تلبيه. وفي كثير من الحالات الأول محق والثاني محق، وبالتالي ذهبنا إلى نظام عاجز عن تحقيق المسؤولية ومحاسبة كل شخص تلكأ بتأدية مهامه".

يشير كلام بيفاني إذاً إلى عرقلة السياسيين لعمل الإدارات العامة، من دون قدرة على محاسبتهم ولا نقاشهم. "فالسياسي لا يُناقَش. صارت السلطة السياسية فوق رأس المؤسسة. وصار بإمكانها القول بأن القرار ليس لديها، وبأنها جزء من مجلس الوزراء، ويمكن لرئيس الحكومة القول بأن المشكلة ليست لدي. وكذلك رئيس الجمهورية. ولم يعد بالإمكان تحديد المكان الذي يتخذ فيه القرار".

الحوكمة والنظام الضريبي
يشخص بيفاني المشاكل المالية بثلاث أساسية، أولها أن كلفة الاستقرار المالي مرتفعة جداً، ثانيها انهيار الإنتاجية في الاقتصاد منذ بداية التسعينات إلى اليوم. والملفت إشارته إلى أن هذه الإنتاجية كانت أعلى خلال فترة الحرب الأهلية اللبنانية! أما المشكلة الثالثة فهي انهيار الحوكمة، وهي من التحديات الأساسية التي يجب مواجهتها، إذ تؤثر على المشكلة الأولى والثانية. ويرى المسؤول في وزارة المالية أنه ولتخفيض كلفة الاستقرار المالي، يجب المرور بسياسة إعادة توزيع أفضل بكثير من التي نشهدها، وهو ما يتطلب نفضة للسياسة الضريبية بأكملها. فيما يؤكد أن السرية المصرفية تمنع فرض ضرائب تصاعدية. ويشدد على أهمية أن تقوم الدولة بدورها. فهي إن لم تقم بذلك، لا يمكن لأي من القطاعين العام أو الخاص أن ينجح. أما الأكثر إيلاماً بالنسبة إليه فهو قول مسؤول عن قطاع عام: لا يمكن فعل شيء.. امنحوه للخاص. ويعلق: "إن لم تتمكن من فعل شيء عد إلى منزلك. فالأجوبة البسيطة ممنوعة. وممنوع أن يقول أحد لا يمكن فعل شيء فلنخصخصه".

ووفق شهادة مدير عام وزارة المالية فإن العجز يأتي من حجم الدولة وقدرتها التشغيلية وفاعلية المؤسسات العامة والتحويل نحوها، ومن كلفة تأمين الأموال وارتفاع أعباء الدين. ويرى أن القطاع العام ليس المشكل الوحيد: "بما أننا لا نعرف أن نحرك اقتصادنا، قد نختار أن يوظف القطاع العام 2000 أو 3000 شخص كل عام على الأقل. وكل عام يدخل سوق العمل حوالى 45 ألف شخص، يمتص اقتصادنا حوالى 23 ألفاً منهم. ما يعني أن قسماً منهم سيغادر أو يبقى في بطالة، وقسم آخر ستُخلق له وظائف في القطاع العام إما لحاجة موجودة أو لحاجة غير موجودة. ولكن عند تحديد الخيارات نحدد شكل الدولة في المستقبل. فاستيعاب الآلاف لتخفيف الضغط الاجتماعي، تحول إلى ضغط على التقديمات والرواتب. وأصبحنا نسمع الآن انعدام القدرة على تحمل هذا المستوى من التقديمات والرواتب. والصحيح أيضاً أننا لم نعد نستطيع أن نتحمل هذا المستوى من حجم القطاع العام".

القصة والأرقام والنفط
عرض بيفاني أيضاً خلال الندوة مسيرة إعداد الحسابات المالية، التي احتاج إنجازها إلى عشر سنوات، بسبب صعوبة البحث عن المستندات وترتيبها ومقارنة الأرقام وإجراء حسابات دقيقة، ووجود مستندات لحسابات تسوية. وأشاد بيفاني بأهمية ما أنجزوه "فالدولة التي تعيش بلا حسابات تعيش بلا ذاكرة، ولنكتب القصة نحتاج لأرقام. ويجب أن نمتلك المعلومة لنحدد المسؤوليات، وإلا تحول الأمر إلى تجني. فالمعلومة غير موجودة لتدين أو لتبرئ. وإن كنت مسؤولاً ولم يكن هناك حسابات، فحتى لو كنت قديساً سأتصرف بخوف".

يملك بيفاني رؤية حول كيفية استخدام أموال النفط، "فإذا استخدم مال النفط لسد الدين ولتحسين الطرقات سيسمى هذا اللعنة النفطية". أما الطريقة الأمثل لاستخدامه فهي بأخذ الأصول واستثمارها خارج البلد لتشكل مدخولاً وإيرادات للخزينة. كما يلفت بيفاني إلى أن المنطقة بأكملها تمر بوضع دقيق جداً وصعب، لا على المستوى الأمني والسياسي وحسب، ولكن لأننا "نشهد انتقالاً فعلياً من اقتصاد معين إلى اقتصاد آخر لم يتبلور بعد، وعلينا أن نواكبه، وإلا أصبحنا في عداد البلاد المتخلفة".

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024