دولارات الانتخابات: المال السياسي "ينعش" السوق!

علي نور الدين

السبت 2022/05/14

منذ ما قبل الحرب الأهليّة، لم يكن من الممكن فصل العمل الحزبي والتنظيمي في لبنان عن تأثير المال السياسي، الذي كان يرتبط أحيانًا ببترودولار ما، كحال الدعم الإيراني والسعودي المالي لبعض الأفرقاء اليوم، أو العراقي والليبي في ما مضى. أمّا المال الانتخابي بالتحديد، وبالإضافة إلى أثر الدعم الخارجي، فكثيرًا ما كان –ومازال- يرتبط بقدرة المرشّحين المتمولين الذاتيّة لدعم حملاتهم الفرديّة، أو حتّى اللوائح التي وافقت على ضمّهم مقابل تقديم الدعم المالي. في خلاصة الأمر، وبغياب آليّات التمويل الحزبي المنظمة والشفّافة المعتمدة في بعض الدول الغربيّة، كان هبوط هذا المال على مرشّحين محددين، بمعزل عن مصدره، هو أحد المعايير التي تسمح بخوض معركة فعليّة.

المال ببساطة، هو عصب العمليّة اللوجستيّة الانتخابيّة: من أتعاب المندوبين إلى كلفة الإعلانات التلفزيونيّة والإذاعيّة، وصولًا إلى إيجارات اللوحات الدعائيّة بمختلف أشكالها وأنواعها وأحجامها، بالإضافة إلى ثمن أنظمة المعلوماتيّة لتسجيل وتتبّع الأصوات، ورسوم استئجار المكاتب الانتخابيّة وقاعات الاجتماعات، مع كل ما يحتاجه ذلك من رواتب لموظّفين متفرّغين. أمّا أبرز ما استجد خلال السنوات الماضية، فهو بيع هواء التلفزيونات المحليّة نفسها، لتصبح المقابلة التلفزيونيّة أو تغطية النشرات الإخباريّة أو نقل وقائع المهرجانات والمؤتمرات الانتخابيّة خدمة تُباع مقابل بدل معيّن، حسب توقيت المساحة التلفزيونيّة ومدتها، ونسبة مشاهدة البرنامج (في حالات المقابلات). وهكذا، تحوّلت الانتخابات إلى موسم قادر على إنعاش ميزانيّات المؤسسات الإعلاميّة، ولو على حساب مصداقية البرامج وأولويّات التغطية الإخباريّة، التي باتت تخضع لحسابات المال الانتخابي.

ضخ الدولار الطازج
كل ما سبق ذكره من أكلاف مرتبطة بالعمليّة الانتخابيّة، بات يتم تسعيره ودفعه بالدولار الطازج، أو بالليرة حسب سعر السوق الموازية. وبذلك، تحوّل الموسم الانتخابي إلى مناسبة لضخ كتلة من الدولارات في السوق، خلال فترة قصيرة لا تتجاوز الشهرين. البداية تبدأ من عدد المندوبين الهائل الذي تحتاجه الماكينات الانتخابيّة في كل دائرة، والذين يقدّر عددهم بالمئات لكل لائحة في كل من الدوائر الخمس عشرة. وأجور هؤلاء، يمكن أن تتجاوز 400 دولار أميركي كمتوسّط في الدوائر الحامية انتخابيّاً كدائرة بيروت الأولى، كما يمكن أن تنخفض إلى عشرات الدولارات في الأطراف. الملفت للنظر، هو أن "سوق المندوبين" بات مدولراً في الغالبيّة الساحقة من الدوائر الانتخابيّة، بما يفرض على المرشّح توفير هذه الأكلاف بالدولار النقدي.

بالتوزاي، ينتعش على هامش سوق المندوبين سوق العقارات المعروضة للإيجار لأسابيع معدودة، والتي تحتاج كل لائحة إلى العشرات منها في القرى والأحياء في جميع الدوائر الانتخابيّة، ليتم استعمالها كمراكز انتخابيّة مؤقتّة. وهذه المراكز، تتضاعف كلفة إيجارها مع اقتراب موعد الانتخابات، وهو ما يدفع معظم اللوائح إلى حجزها قبل أشهر من موعد الانتخابات، خصوصًا بالنسبة إلى المحال الأرضيّة القريبة من مراكز الاقتراع، والتي يرتفع الطلب عليها لأهميّتها في عمليّات اليوم الانتخابي. وفي منطقة بيروت بالتحديد، انتقلت الغالبيّة الساحقة من المؤجرين إلى طلب بدلات الإيجار بالدولار النقدي، بالنظر إلى تزاحم المرشحين على طلب المحال الأرضيّة القريبة من مراكز الانتخاب، وهو ما رفع كلفة الإيجار لتتجاوز في بعض الأحياء 5000$ مقابل استعمالها لأسابيع معدودة.

أما المؤسسات الإعلاميّة، فعامت ميزانيّاتها بدولارات المرشحين المتمولين، أو الأحزاب ومنصّات التمويل الداعمة للمرشحين، بعد أن تحوّلت كل ساعة هواء إلى مصدر للدولار الانتخابي الطازج، حيث تراوحت تسعيرة المقابلة على الهواء بين 20 ألف دولار و60 ألف دولار حسب التوقيت والمحطة ومدة المقابلة. مع الإشارة إلى أن بعض المحطات ذهبت إلى تقديم ما يُعرف بالـPackage Deal على المرشحين، أي رزمة متكاملة تشمل تغطية المؤتمرات الصحافية والمناسبات والاحتفالات، مع مقابلات وتغطيات إخباريّة، مقابل بدل ثابت قد يتجاوز 150 ألف دولار.

السوق التي لا يلتفت إليها كثيرون، هي سوق "خبراء" تنظيم الماكينات الانتخابيّة، الذين يملكون الخبرة التقنيّة في إدارة الداتا والمندوبين، والذين يملكون في كثير من الأحيان العلاقات المناسبة مع المفاتيح الانتخابيّة في كل دائرة، بالإضافة إلى خبرة شراء أنظمة المعلوماتيّة المناسبة وتنظيمها. وهؤلاء بدورهم، ينتظرون في العادة المواسم الانتخابيّة لعرض خدماتهم على المرشحين، وخصوصًا المتمولين الذين لا يملكون هيكليات حزبيّة قويّة قادرة على إدارة هذه المسائل، ولا ماكينات تاريخيّة مساندة لهم. مع الإشارة إلى أن هذه الفئة بالتحديد من "الخبراء"، غالبيًّا ما يتنقلون بحثًا عن الأجر الأعلى بين المرشحين على لوائح مختلفة، أو حتى داخل اللائحة نفسها، حيث يستعر السباق على الأصوات التفضيليّة.

تقلّص الإنفاق على تنظيم الاستحقاق الانتخابي
الجانب الآخر من الحركة الماليّة التي ترتبط بالاستحقاق الانتخابي، ترتبط بالإنفاق على تنظيم الاستحقاق نفسه من قبل الدولة اللبنانيّة، والذي تجاوز عام 2018 حدود 54 مليون دولار. هذه السنة، تقلّص الإنفاق على تنظيم الاستحقاق إلى حدود 15.5 مليون دولار فقط، نتيجة تراجع سعر صرف الدولار بين الدورتين من 1500 ليرة عام 2018 إلى 27000 ليرة اليوم. مع العلم أن جزءاً كبيراً من الاعتمادات المرصودة كجزء من تكاليف العمليّة الانتخابيّة مقومة ومدفوعة بالليرة اللبنانيّة، مثل تعويضات بدلات نقل رؤساء الأقلام والكتبة ليوم الانتخاب، وسلف الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي، بالإضافة إلى سلف المحافظين وتعويضات هيئة الإشراف على الانتخابات، والاعتمادات المرصودة لمديريات الأحوال الشخصيّة والشؤون السياسيّة والمديريّة الإداريّة المشتركة في وزارة الداخليّة. وجميع هذه النفقات، لن تدخل حكمًا من ضمن العوامل المؤثرة بشكل مباشر على حركة العملة الصعبة في السوق.

ما لا يمكن رصده هو الرشى الانتخابية (بدل النقل، المساعدات العينية، خدمات..) وشراء الأصوات. وهذه كلها تشكل إنفاقاً كبيراً يوازي ما ذكرناه وربما أكثر.

في خلاصة الأمر، وطوال الأسابيع الماضية، كانت الانتخابات مصدراً من مصادر السيولة التي دخلت السوق بالعملة الصعبة، لتسهم في تحريك قطاعات عدة مرتبطة بالانتخابات، كالعقارات المؤجرة ووسائل الإعلام. أما يوم الانتخابات بالتحديد، فمن المرتقب أن تهبط إلى السوق كتلة أخرى من السيولة، التي ترتبط بأتعاب المندوبين، الذين غالبًا ما يتقاضون أتعابهم بعد اليوم الانتخابي الطويل وفرز النتائج. أما بعد الانتخابات، ومع انقضاء المهلة التي منحها حاكم مصرف لبنان لضبط سعر صرف الدولار في السوق، عبر ضخة من خلال المنصّة، فسيكون أمام سوق القطع تحدّ آخر، لجهة توفّر العملة الصعبة وسعر صرفها.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024