"نهاية" سلامة المحاصر بارتكاباته: الأوروبيون دقّوا ساعة رحيله

علي نور الدين

الجمعة 2021/01/22

بالنسبة إلى الحكومات الغربيّة والجهات الدوليّة المعنيّة بالشأن اللبناني، وخصوصاً الجانب المتصل بالأزمة الماليّة، لم يعد رياض سلامة مجرّد شخصيّة مرتبطة بارتكابات غامضة، لم تُكشف كل فصولها بعد. بل تحوّل الرجل وموقعه والدور الذي يؤديه إلى نقطة تلتقي عندها مصالح وضمانات شبكة عميقة من النافذين المتكاتفين في النظامين المالي والسياسي، والمتورّطين بشبهات ما قبل الانهيار وما بعده. لا بل أصبح الرجل، بما يمثّل من صلاحيات محصّنة قانونياً وطائفياً، خط دفاع أساسي يتخندق خلفه هؤلاء، لإخفاء ما اقرفته أيديهم أولاً، ولمنع المس بمكتسبات المرحلة السابقة ثانياً.

سلامة: العقبة في وجه الإصلاحات
على هذا النحو، رأت هذه الجهات الدوليّة كيف عرقل الرجل التدقيق الجنائي ولا يزال، لإخفاء مصدر الخسائر. وناور أمام صندوق النقد وزرع الألغام على طريق خطّة التعافي المالي، وتقديراتها للخسائر، كي لا تتحمل المصارف من رساميلها أي كلفة من أكلاف التصحيح المالي. ثم توسّع في طبع النقد لخدمة المصارف أيضاً، مشوّهاً بذلك بنية الكتلة النقديّة، وجاعلاً من توحيد أسعار الصرف لاحقاً مسألة في غاية الصعوبة. وفي كل ذلك، تمتّع الرجل بغطاء سياسي سميك، قوامه كتلة صلبة من القوى السياسيّة المتمسّكة به وبمناوراته، ربما لكونه يمثّل جبل مصالحها الممتدة في طول القطاع المصرفي وعرضه.

وحين هبطت المبادرة الفرنسيّة على لبنان بعد انفجار المرفأ، تشابهت مع صندوق النقد في معظم الإصلاحات الماليّة والإداريّة المطلوبة. لكن الفرنسيين حرصوا على تضمين مبادرتهم بنداً غير مكتوب، ينص على تأمين الانسحاب الآمن لرياض سلامة، ربما لمعرفتهم أن وجود الرجل بما يمثّل من تقاطع مصالح سيمثّل عثرة على طريق التعافي والتصحيح المالي. لكنّ مكائد السياسة ومصالح السياسيين دخلت على الخط، وأطاحت بالمبادرة الفرنسيّة وإصلاحاتها، وبفكرة استبدال الحاكم. ثم تابع سلامة الدور الذي كان يلعبه سابقاً في حماية النخبة الماليّة المهيمنة، وفي هندسة إعادة هيكلة المصارف على النحو الذي يخدم مصالحها.

العصا الأوروبيّة الغليظة
بعد سقوط المبادرة الفرنسية، دخلت ألمانيا بثقلها في الاتحاد الأوروبي على الخط. وكانت أولى مؤشّرات هذا التطوّر بيان مجلس الاتحاد الأوروبي الذي صدر خلال الشهر الماضي، والذي حرصت بعثة الاتحاد في لبنان على توزيعه باليد لمن يعنيهم الأمر في بيروت. لم يكن جديداً أن يصدر الاتحاد الأوروبي بياناً يعرب فيه عن اهتمامه بتطوّرات المسألة اللبنانيّة. لكن الجديد كان دخول الأوروبيين بتفاصيل الشروط المطلوبة لإخراج البلاد من محنتها: من الكابيتال كونترول إلى التدابير المصرفيّة المطلوبة، وإستقلاليّة القضاء، وصولاً إلى خطة الكهرباء. لا، بل حرص الأوروبيون في مسألة مصرف لبنان على إضافة شروط لم يتحدث عنها لا صندوق النقد ولا المبادرة الفرنسيّة، كشرط إجراء تدقيق جنائي شامل وسريع، وليس تدقيقاً محاسبياً مفصّلاً وحسب. كما حرصوا على الإشارة إلى الدور الذي يفترض أن يلعبه المجلس النيابي، في دلالة إلى مراقبة الأوروبيين لدور اللوبي المصرفي في المجلس في إسقاط خطة الإصلاح المالي. لقد كان البيان مجرّد إشارة إلى أنّ الملف اللبناني أحيل إلى طاولة بروكسيل، وأن الأوروبيين أجمعوا على مقاربة ماليّة متكاملة لهذا الملف.

ومع إحالة الملف اللبناني إلى بروكسيل، بدأت التسريبات تتوالى عن نيّة الأوروبيين التلويح بالعصا الغليظة في وجه الرموز المتورّطة بالارتكابات التي أدّت إلى الأزمة الماليّة، لتتكامل مع العقوبات التي بدأت الولايات المتحدة بفرضها على بعض الشخصيات اللبنانيّة. لكن التسريبات كانت تشدد على رغبة الأوروبيين بأخذ منحى أكثر وضوحاً من العقوبات الأميركيّة، من خلال فتح مسارات قضائيّة واضحة، وتحقيقات ماليّة تتبّع أصول الشخصيّات المستهدفة في البلدان الأوروبيّة. ويبدو أن سلامة كان أوّل هؤلاء المستهدفين.

تحقيقات بأصابع فرنسية وزخم أوروبي
في هذا السياق بالذات، أتت التحقيقات مع حاكم مصرف لبنان، والتي ترتبط بتحويلات ماليّة قاربت قيمتها 352 مليون دولار، وحصلت بالتزامن مع الهندسات الماليّة، وما نتج عنها من أرباح ضخمة سنة 2016. وعمليّاً، فُتح التحقيق من سويسرا بالتحديد، لاتصال هذه التحويلات بعمليات جرت من خلال مصارف سويسريّة، قبل أن تتوزّع على شكل أصول وموجودات في سائر أنحاء أوروبا. وحتى اللحظة، لم تتضح هويّة الجهة المصرفيّة التي قدمت المعلومات أو أثارت القضيّة الآن بالذات، لكنّ زيارات سلامة المتكررة والغامضة إلى باريس خلال الفترة الماضية، واعتماد التحقيق السويسري على معطيات تتصل بجهات فرنسيّة، يرجّح أن يكون هناك دور ما لباريس، الراغبة دوماً باستبدال سلامة.

لكل هذه الأسباب، يدرك سلامة جيّداً أن مسألة التحقيقات، التي يجري فتحها بتحقيق سويسري ومعلومات فرنسيّة وزخم أوروبي، تتخطى الطابع الجنائي الشخصي، لتمثّل استهدافاً للدور الذي يقوم به، كحامي للمنظومة التي عرقلت تنفيذ جميع الشروط الإصلاحية التي طرحها صندوق النقد أولاً، قبل أن تتبناها المبادرة الفرنسيّة، ومن ثم يطعّمها الاتحاد الأوروبي بشروطه وضغوطه القاسية. وبهذا المعنى، يدرك الحاكم أيضاً أن هدف التحقيقات لن يكون التحري عن أصوله وأمواله فقط، بل الوصول إلى الإطاحة به وبما يمثّل. ولعلّ أبرز ما قرأه الحاكم في ما جرى، هو تزامن فتح التحقيقات مع انشغال الأميركيين بترتيبات انتقال السلطة في البيت الأبيض. ما يعني تعمّد إثارة القضيّة بغياب التدخّل الأميركي الفاعل، الذي لطالما مثّل غطاءه الدولي السميك.

ببساطة، بات هناك ما يكفي من أسباب ليخشى سلامة على مستقبل حاكميّته، وليخاف من رحيل غير آمن هذه المرّة، بعد أن رفض عرض الانسحاب الآمن الفرنسي.   

ردود ركيكة
تعليقات الحاكم عكست ركاكة موقفه أمام معطيات التحقيق. في أولى بيانات الرد، نكر الحاكم وجود "التحويلات المزعومة"، مشيراً إلى نيّته مقاضاة الجهات التي تسوّق هذا النوع من الأخبار. لاحقاً، وأمام القاضي عويدات، أشار سلامة إلى أن التحويلات التي يتحدّث عنها التحقيق الأوروبي جرت من حسابه وحسابات أخيه ومعاونته الشخصيّة، ولم تجرِ من حسابات مصرف لبنان نفسه. كما أشار إلى هذه التحويلات جرت قبل حزيران 2016، ولم تحدث بعد حصول الانهيار المصرفي. مع العلم أن التحقيق نفسه والمعطيات موضوع الأسئلة لم تتدعِ خلاف ما قاله سلامة، فيما لا يمثّل ما قاله الرجل أي إيضاح أو نفي للمعلومات موضوع الأسئلة.

عمليّاً، تشير المعطيات إلى أن التحقيق السويسري يشير منذ الأساس إلى أن التحويلات جرت من الحسابات الشخصيّة وليس من حسابات المصرف، وإلى أن الفترة التي حصلت فيها التحويلات سبقت حصول الانهيار. لكنّ التحقيق يحاول حاليّاً فهم مصدر هذه الأموال، وإمكانيّة ارتباطها بعمليات كسب غير مشروع، خصوصاً أن سنة 2016 شهدت عمليات استثنائيّة ضخمة في مصرف لبنان، نتج عنها أرباح خياليّة توزعت على حلقة ضيّقة من كبار المودعين وأصحاب المصارف. كما من المفترض أن تتبع هذه التحقيقات مآل هذه الأموال، وحجم الأصول الإجماليّة التي يملكها سلامة وأخيه ومساعدته في بلدان الاتحاد الأوروبي.

الأكيد حتّى اللحظة هو أن سلامة متجه إلى الذهاب إلى سويسرا شخصيّاً لمتابعة التعامل مع التحقيق، وهو ما يعكس خشيته الكبيرة من نتائج هذا التحقيق على مسيرته في لبنان، وأصوله الموجودة في الاتحاد الأوروبي. كما تبدو خشية الحاكم واضحة اليوم من خلال الحملة الإعلاميّة الكبيرة التي حاول من خلالها استباق ردود الفعل المحليّة على التحقيقات، من خلال بعض وسائل الإعلام التي تدور في فلكه التي سوقت وجود مؤامرة محليّة المصدر، على خلفيّة شروط إعادة الرسملة التي فرضها على المصارف. لكن بمعزل عن كل هذه الحملات الإعلاميّة، بات الحاكم يدرك أن غطاءه الدولي صار مفقوداً، وأن ما أفقده هذه الغطاء هو الدور الذي لعبه طوال الفترة الماضية في كل ما يتصل بالمعالجات المرتبطة بالملف المالي. أما السؤال الأساسي، فهو عن مدى استعداد القوى السياسيّة المحليّة التي تحميه للتضحية في سبيل بقائه، خصوصاً أن ثمّة بعض الأطراف، كالعهد العوني مثلاً، تتحيّن الفرصة أساساً للإطاحة به.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024