الحكومة تحتال على التدقيق الجنائي بشركة غير متخصصة!

علي نور الدين

الأربعاء 2020/07/22
تمكّن مجلس الوزراء أخيراً من التوصّل إلى قرار بالتدقيقين المحاسبي والجنائي في ميزانيّات وأرقام مصرف لبنان. عمليّاً، تركز الخلاف الأكبر في الفترة الماضية على هويّة الشركة التي ستقوم بالتدقيق الجنائي، ويبدو أن التسوية غير المعلنة قادت المجلس إلى الاتفاق على شركة غير متخصصة بهذا الشأن، ولو كانت تمتلك دائرة تقوم بهذه المهام. 

الهروب إلى التدقيق المحاسبي
في المبدأ، لا يبدو أن عمليّة الاتفاق على التدقيق المحاسبي انطوت على أي سجال أو إشكاليّات فعليّة. فهذا التدقيق لا يطال سوى طريقة تسجيل العمليات في دفاتر المصرف المركزي من ناحية مطابقتها المعايير المحاسبيّة حصراً. وهذا تدقيق يجريه مصرف لبنان دورياً من خلال شركات تدقيق أجنبيّة، بينما تجريه وزارة الماليّة بواسطة مفوضيّة الحكومة لدى المصرف.

لذلك، لم يكن مستغرباً الاتفاق بسلاسة على شركتي KPMG وOliver Wyman لإجراء هذا التدقيق، بلا ضجيج يُذكر، مع العلم أن الشركتين تعتبران من كبرى الشركات المتخصصة بهذا النوع من التدقيق تحديداً. ببساطة، لا يبدو أن ثمّة ما يثير قلق أحد في الحكومة حيال هذا التدقيق.

وهنا تؤكّد مصادر مصرفيّة على اطلاع على طريقة عمل هذه الشركة، التي لا تستهدف تصحيح الميزانيّات أو إعادة صياغتها لمعرفة الأرقام الدقيقة، ولا تحاول تتبع أهداف أي خلل في طريقة تسجيل العمليات أو هويّة المستفيدين منه، بل تستهدف حصراً إبداء الرأي بالممارسات المعتمدة للتصريح عن الأرقام. ولذلك، أقصى ما يمكن توقّعه هو الإشارة إلى وجود خلل تقني ما في طريقة تسجيل الأرقام في حال وجوده. مع العلم أن أهم وأبرز التجاوزات التي يُشار إليها عادةً في عمل مصرف لبنان، لا تتعلّق بهذا النوع من الأمور المحاسبيّة التقنيّة.

التسوية وإسقاط كرول
في الواقع، كان الخلاف كله يتركّز تحديداً حول التدقيق الجنائي، لأنه يطال مسائل أعمق من مسألة المعايير المحاسبيّة، مثل العمليات التي تبدو في الشكل عمليات نظاميّة، لكنّها تؤدّي عمليّاً إلى التفاف على القوانين والأعراف المعمول بها في القطاع المصرفي.

لذا، أثار طرح إسم شركة كرول بلبلة كبيرة، خصوصاً أن طرح اسمها للقيام بالتدقيق الجنائي كان يعني الاعتماد على شركة متخصصة بهذا النوع من المهمات. وهي شركة تمتلك علاقات دوليّة تسمح لها باستقصاء المعلومات وملاحقة التحويلات إلى الخارج ومعرفة المستفيدين منها. مع العلم أن كرول لم تكن ستوافق حكماً على الدخول في عقد مع الحكومة اللبنانيّة لا يشمل تمكينها من كشف جميع المعلومات التي تطلبها لتنفيذ هذه المهمّة. كما لم تكن لتوافق على توقيع هذا العقد في حال وجود تلاعب في بنوده، يهدف لحصر التحقيق في جوانب معيّنة من دون سواها. فسمعة الشركة، كشركة تدقيق جنائي، لا تتحمّل هذا النوع من الشبهات.

ولذلك، أطاحت مجريات الأيام الماضية بفكرة الاعتماد على كرول، لتحل مكانها شركة Alvarez & Marsal. ولا يحتاج المرء إلى كثير من البحث ليكتشف أن الشركة هذه هي عمليّاً شركة استشارية عالميّة فعلاً، لكنّها متخصصة في تقديم خدمة الدراسات الهادفة إلى تحسين أداء الشركات وتطوير عملها، إضافة إلى "إدارة التحوّل"، أي تحويل النماذج الاستثماريّة غير المنتجة، أو التي تعاني من مشاكل في ربحيّتها، إلى شركات مربحة. أما في ما يتعلّق بالتدقيق الجنائي، فالشركة تقوم بهذه المهمّة كواحدة من 11 خدمة أخرى تقوم بها في إطار أهدافها العامّة.

بمعنى آخر، إتجه مجلس الوزراء إلى شركة غير متخصّصة بمسألة التدقيق الجنائي حصراً. وهذا سيؤثّر بطبيعة الحال على مستوى تعمّق التدقيق وقدرته على استقصاء المعلومات المطلوبة. لكنّ أهم ما في الأمر، هو أن الأهداف الفضفاضة للشركة تسمح للقيّمين على التدقيق من جهة الحكومة، بالتفاهم على عقد ببنود قد تستثني من التدقيق الكثير من الأمور التي يجب أن يطالها هذا النوع من التحقيقات، لا بل يمكن التلاعب - في بنود العقد نفسه - بأهداف التدقيق بشكل مقنّع، من خلال التلاعب بنوعيّة الدراسة المطلوبة. وطالما أن الشركة غير متخصصة بالتدقيق الجنائي تحديداً، فهي لا تخاف على سمعتها من دخولها في عقد لا يشمل تدقيقاً جنائياً شاملاً ودقيقاً، طالما أنّها تلبّي طلبات عميلها، أي الدولة اللبنانيّة، وطالما أن أهدافها الفضفاضة والكثيرة تسمح بذلك.

ثم أن خدمات الشركة الواسعة والكثيرة تسمح للقيمين على عقد التدقيق التملّص من التدقيق الشامل والدقيق، عبر اختيار أهداف متعددة لإضاعة الهدف الأساسي من التدقيق، كدراسة جدوى بعض العمليات الماليّة وكلفتها وملاءة المصرف، وغيرها من الأمور التي تدخل ضمن مجال الدراسات الاستثماريّة التي تقوم بها الشركة عادة.

نماذج من عمل الشركة
الخوف من مستقبل التدقيق الجنائي بعد تكليف هذه الشركة مشروع ومبرر، نظراً إلى تجاربها السابقة. فبعد الاتهامات التي تعرّض لها بنك الشرق الأوسط وإفريقيا بتبييض الأموال سنة 2015، كلّف المصرف الشركة بإجراء دراسة لنوعيّة المعايير المتبعة لديه في ما يتعلّق بمكافحة تبييض الأموال، وحدد لها مجموعة من الإجراءات المعتمدة من قبله، والتي ينبغي أن تستهدفها الدراسة وتدرس فعاليّتها. وبعدما امتثلت الشركة لأهداف التحقيق الذي طلبه عميلها، أي المصرف نفسه، جاءت النتيجة مطابقة لما أراد العميل من التحقيق نفسه، من خلال التأكيد على جدوى معاييره وإجراءاته. وبالتأكيد، لم تنفع كل هذه الدراسة في تغيير مصير المصرف الذي تعرّض إلى هزّة كبيرة بعد إدراج صاحبه على لائحة العقوبات، بينما كان من الواضح أن الشركة خلصت إلى هذه النتيجة لمجرّد التزامها بنطاق التحقيق الذي طلبه المصرف نفسه.

وعلى أي حال، من المؤكّد أن الشركة نفسها والوجوه التي تديرها لا تمثّل أفضل نموذج يمكن الاعتماد عليه في مسألة حسّاسة كميزانيات المصرف المركزي. وبمجرّد إعلان اتفاق مجلس الوزراء على الشركة لإجراء التدقيق الجنائي، لفت بعض النشطاء على وسائل التواصل الاجتماعي إلى أنّ المدير التنفيذي في الشركة جوزيف بيراردينو ليس سوى المدير السابق لشركة التدقيق الأميركيّة المعروفة أرثر أندرسن، والتي أقفلت سنة 2002 بعد تورّطها في عمليّات إتلاف أدلة جرميّة طالت شركة إنرون، التي كانت أرثر أندرسن نفسها تقوم بتدقيق ميزانيّاتها، كما تورّطت شركة التدقيق التي أدارها بيراردينو بعمليات إخفاء عمليات إحتياليّة قامت بها إنرون.

انتظروا بنود العقد
في النتيجة، ثمّة ما يكفي من مؤشّرات للدلالة على أن الاعتماد على شركة Alvarez & Marsal لإجراء هذا التدقيق، رغم عدم امتلاكها الكفاءة المطلوبة والتخصص للقيام بذلك، لم يكن مسألة عبثيّة، بل كانت خطوة مدروسة وهادفة وجاءت كتسوية، بعد كل القلق الذي أثاره الاعتماد على شركة متخصصة من وزن كرول. وما سيثبت صحّة هذه الترجيحات في الأيام المقبلة هو نوعيّة العقد الذي توقعه الحكومة مع الشركة، والأهداف التي تحددها لها، إضافة إلى الصلاحيات الممنوحة لها للدخول في تفاصيل أرقام المصرف المركزي والتحويلات التي جرت. وثمّة خشيّة مبررة من لجوء السلطة إلى التعتيم على العقد نفسه. وهذا يعني إمكان إخفاء هذه البنود والأهداف طوال الفترة المقبلة. ومن الممكن في هذه الحال أن نكون قد أطلقنا تسمية "تدقيق جنائي"، على دراسة جرى تحديد إطارها وإهدافها وصلاحياتها بما يفرغها من طابع التدقيق الجنائي نفسه.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024