لعبة عضّ الأصابع: بمن ستطيح الأزمة.. دياب أم سلامة؟

علي نور الدين

السبت 2020/04/25

أمام تدهور سعر الصرف السريع في السوق، والذي بات ينذر بأزمة معيشيّة مؤلمة على المستوى الاجتماعي، انتظر اللبنانيون من اجتماع الحكومة الأخير، الخروج بمقرّرات ترقى إلى مستوى الأزمة وخطورتها. لكنّ شيئاً من هذا لم يحصل. فعليّاً، خرج حسّان دياب بعد الاجتماع في خطاب لا يعكس سوى أسلوب تقاذف المسؤوليّات بينه وبين حاكم المصرف المركزي، ليبدو أن الطرفان قرّرا الدخول في لعبة عض أصابع، عبر ترقّب الطرف الذي ستطيح به الأزمة أوّلاً. وفي كل الحالات، كان واضحاً أنّ دياب في خطابه يتجاهل الدور المطلوب لحكومته في معالجة الأزمة، خصوصاً أن كل الاتهامات التي تحدّث عنها في ما يتعلّق بالأدوار التي لعبها حاكم المصرف المركزي هي إدعاءات صحيحة، لكنّها لم تكن لتحدث لولا تقاعس الحكومة عن الاضطلاع بدورها في إدارة الأزمة الماليّة والنقديّة.

عجيبة العجائب: شركة تدقيق!
كانت المسألة الغريبة في خطاب دياب إنطلاقه في الحديث عن أزمة صراحة ووضوح في التعاطي مع مصرف لبنان، مستعملاً عبارة "المعالجة في الكواليس" للإشارة إلى أسلوب رياض سلامة في التعاطي مع الانهيار المالي الحاصل. أمّا العجيبة الكبرى فكانت إعلانه الاتجاه إلى تكليف شركة ماليّة أجنبيّة للتدقيق في حسابات المصرف المركزي ومعرفة تفاصيل الفجوة الموجودة في ميزانيّاته!

يمتلئ المشهد بالتناقضات، فهناك حكومة فشلت في تعيين مفوّضها لدى المصرف المركزي. كما تقاعست عن تعيين نوّاب الحاكم الأربعة، الذين يُفترض أن يشتركوا في إدارة المصرف مع الحاكم، من خلال المجلس المركزي للمصرف. ولم تنجز تعيينات لجنة الرقابة على المصارف، وهي اللجنة التي تمثّل الجهاز الرقابي على عمليّات المصارف الخاصّة.

وبعد أن تفشل الحكومة في إنجاز كل هذه التعيينات، بسبب الخلافات حول تقاسم المناصب، يخرج رئيسها ليشكو عدم وضوح المشهد النقدي والمالي. فأي وضوح توقّعه رئيس الحكومة في ظل شغور جميع المناصب التي يُفترض أن تكون الأعين الساهرة على مصرف لبنان والقطاع المصرفي الخاص؟ وأي منطق إداري يقضي بإبقاء جميع هذه المناصب ذات الصلاحيات الواسعة شاغرة، بسبب المحاصصة الطائفية والسلطوية، ثم نلجأ إلى شركة تدقيق خاصّة لا تملك صلاحيّات إجرائيّة لقراءة ميزانيات مصرف لبنان وشرحها؟

ليس هناك أي شك بوجود أزمة وضوح كبيرة في ميزانيات مصرف لبنان، فالفجوة التي يتحدّث عنها الجميع اليوم في هذه الميزانيّات كانت مسألة مخفيّة منذ سنوات بألاعيب محاسبيّة معقّدة. لكنّ أغرب ما في الأمر هو مبادرة السلطة للاحتجاج والاستنكار مثلنا، وكأنّها متفرّج لا يملك دوراً يُذكر في ما يجري، بينما تتغاضى عن لعب أبسط الأدوار المطلوبة منها، مثل إنجاز التعيينات في المواقع الرقابيّة والإداريّة في مصرف لبنان، ولجنة الرقابة على المصارف. وعلى أي حال، كان واضحاً أن جميع الأسماء التي جرى التداول بها للتعيين في هذه المناصب، قبل تعثّر التعيينات، كان قد جرى انتقاؤها على أساس المحاصصة لا الكفاءة، وهو ما يدفع للتشكيك حتّى في جدوى تعيينات الحكومة لو حصلت.

أزمة تهريب الودائع
يتحدّث دياب عن أرقام مخيفة في ما يخص تهريب الودائع من القطاع المصرفي، فبحسب خطابه ثمّة 5.7 مليارات خرجت من الودائع المصرفيّة في أوّل شهرين من العام، بينما تنامت خسائر مصرف لبنان بحوالى 7 مليارات دولار منذ بداية السنة، بينها 3 مليارات في الأسابيع الأربعة الأخيرة فقط.

بالتأكيد، لا تعكس هذه الأرقام سوى أزمة تهريب ودائع كبيرة، تحصل بعيداً عن الأضواء في القطاع المصرفي. فخسارة ثلاثة مليارات في الأسابيع الأربعة الأخيرة لا يمكن تفسيرها بتمويل الاستيراد، خصوصاً في ظل انخفاض الواردات حتّى أدنى حدود، كما لا يمكن تفسيرها بتمويل السحوبات النقديّة في فروع المصارف، بعد أن تم إيقافها كليّاً. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الانخفاض الضخم في الودائع المصرفيّة في أوّل شهرين من العام. إذ يفوق هذا الرقم بكثير كل السيولة التي احتاجتها البلاد لتمويل الاستيراد والسحوبات النقديّة في فروع المصارف وفقاً للسقوف المحددة.

أزمة الاستنسابيّة في التعاطي مع المودعين، وتمكين النافذين منهم من تهريب ودائعهم إلى خارج النظام المصرفي، أزمة مستمرّة إذاً، بدلالة جميع الأرقام التي أشار إليها رئيس الحكومة، بما فيها تلك التي تعكس واقع الأسابيع الأخيرة. لكنّ المشكلة هنا تكمن في حديث رئيس الحكومة عن هذه الأزمة أيضاً وكأنّه متفرّج كسائر المواطنين، متناسياً الدور التي فشلت الحكومة في القيام به إزاء هذه الظاهرة.

فحاليّاً، لا تخضع جميع إجراءات ضبط السيولة المعمول بها في القطاع المصرفي إلى أي قانون أو تشريع يضبطها، ويحرص على تساوي المودعين في الحقوق. وعندما سعت الحكومة إلى صياغة مشروع قانون متعلّق بهذه المسألة، سرعان ما دخل مستشارو القطاع المصرفي على خط صياغة المسودّة، لتتحوّل المسودّة المقترحة إلى مجرّد صك تشريعي للإجراءات المعمول بها، من دون أن تفرض أي ضوابط أو تنظيمات تصب في صالح المودعين ومصالحهم. وما لبثت أن أُسقطت الفكرة لاحقاً في الحكومة بعد دخول مرجعيات سياسيّة على الخط، ولأسباب مجهولة. ومنذ ذلك الوقت، أصبحت الكرة في ملعب مصرف لبنان، لتُدار المسألة وفقاً لمشيئة الحاكم وحده بمراسيم دوريّة، وبغياب أي تدخّل من الحكومة، وفي ظل غياب أي دور للمجلس المركزي للمصرف، بعد أن تم إرجاء إقرار التعيينات الماليّة.

دياب ودور المتفرّج
لعب دياب إذاً دور المتفرّج في خطابه، وناشد الحاكم الخروج وإعلان الحقائق أمام الرأي العام. لكنّ رئيس الحكومة تناسى أن حكومته هي مركز القرار في السلطة التنفيذيّة، وثمّة مسؤوليّات واضحة كان يجب أن تضطلع بها قبل الدخول في لعبة رمي المسؤوليات مع مصرف لبنان. ومن عجائب السياسة اللبنانيّة أن ينتظر اللبنانيون قرارات حكومتهم إزاء أخطر أزمة ماليّة ونقديّة عرفتها البلاد، ليجدوا أن رئيس الحكومة مثلهم يستنكر، ويشجب، ويناشد مصرفهم المركزي، من دون أن يعلن عن أي إجراء أو قرار فعلي يخص المسألة.

بالتأكيد، ثمّة تجاوزات كبيرة وخطيرة ارتكبها المصرف المركزي طوال السنوات الماضية، من إخفاء بعض الحقائق إلى الدخول في معالجات مكلفة وغير مفهومة الأهداف. لكنّ كل تلك التجاوزات لم تكن لتحدث لولا تقاعس السلطة السياسيّة عن لعب دورها المطلوب وفقاً للقوانين المرعيّة الإجراء. ففي النهاية، حاكم المصرف المركزي ليس سوى موظّف يتخذ قراراته ضمن هامش تقاطع المصالح بينه وبين السلطات السياسيّة المتعاقبة، التي حرصت على التجديد له كل مرّة.

يحيلنا كل ذلك إلى الدعوات التي خرجت مؤخراً للإطاحة بسلامة. فهل هذه المسألة هي المعالجة النهائيّة للوضع القائم في المصرف المركزي؟ هل يضمن اللبنانيّون استقامة الأمور إذا تغيّر الحاكم في ظل التركيبة ذاتها التي تشرف على السلطة التنفيذيّة في البلاد؟ من الواضح أن تشابك المصالح أكثر تعقيداً من مسألة هويّة الحاكم وحده.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024