ضخّ الدولار لا ينقذ الليرة: يهدر الاحتياطي ويدعم التهريب

علي نور الدين

الثلاثاء 2020/06/16

لا يبدو أن السلطة فهمت الدرس من تطوّرات الأيام الماضية، في ما يتعلّق بطريقة التعامل مع تهاوي سعر الصرف. بل من الواضح أنّها تتجه بإصرار نحو نطح الحائط، بتحدّيها قوانين السوق البديهيّة. ببساطة، حملت مقرّرات مجلس الوزراء التمسّك بالخطّة نفسها التي توجّهت إليها رئاسة الحكومة سابقاً، والتي فشلت في الأيام الماضية، مع محاولة ترقيعها بالتضحية بما تبقّى من حتياطات المصرف المركزي، تحت شعار "ضخ الدولار في الأسواق".

ثمّة من يقرأ ذلك على أنّه شعبويّة فاقعة في التعامل مع الأزمة، من خلال تصوير الحكومة إعلاميّاً، كطرف مدافع عن المصلحة العامّة في وجه المصرف المركزي، الذي يتقشّف في الدولار ويرفع بذلك سعر صرفه. فيما يذهب آخرون إلى إعتبار ذلك خطوة هادفة، تتصل بما يجري في سوريا وأثر العقوبات عليها.

فشل الخطة السابقة
خلال الأيام الماضية، واجهت الخطّة السابقة للحكومة والـGentlemen’s Agreement الذي عقده رئيسها مع الصرّافين الفشل الذريع. كان يُفترض بهذا التفاهم أن يقود نحو تهدئة الطلب على الدولار، من خلال حصر الصرّافين بيعه بالمؤسسات التي تقوم بالاستيراد. فيما كان المخطط يقضي أيضاً أن يقوم مصرف لبنان بتوفير الدولارات بسعر مدعوم لمستوردي السلع الأساسيّة، لتلبية جزء من الطلب على الدولار وإعادة بعض التوازن إلى السوق. بمعنى أخر، كانت الخطّة تركّز على التحكّم بالطلب على الدولار، بهدف السيطرة على سعره. وكان يُفترض حسب خريطة الطريق هذه، أن تقود كل هذه العوامل إلى تمكين نقابة الصيارفة من تخفيض سعر الصرف بشكل "ميكانيكي"، من خلال بيانات يوميّة تحدد كل صباح هامش معيّن لسعر الصرف.

خلال الأسبوع الماضي، فشلت الخطّة بسرعة قياسيّة. فعمليّاً، ظل جزء كبير من الطلب على الدولار خارج الخطّة، وتحديداً كل عمليّات شراء الدولار التي لا يشملها تفاهم الصرّافين مع رئيس الحكومة أو تعاميم مصرف لبنان، التي تحدد شروط بيع الدولارات المدعومة. ولذلك، تشكّلت سريعاً سوق سوداء بسعر صرف موازٍ ومرتفع، وذهبت كل عمليّات بيع الدولار إلى هذه السوق، بدل التوجّه إلى الصرّافين بسعر الصرف المنخفض، الذي تحدده النقابة كل صباح. ولذلك، كان أمام كل شركة صيرفة احتمالين: إما الإحجام عن التداول بالدولار كليّاً، لعدم وجود زبائن مستعدين لبيع الدولار وفقاً لسعر النقابة المنخفض، أو الإحجام عن التداول العلني واللجوء إلى التداول في السوق السوداء بالسعر المرتفع.  

بدأت جميع التداولات بالذهاب باتجاه السوق السوداء إذاً. وفي السوق السوداء خرج سعر الصرف عن نطاق السيطرة كليّاً. خصوصاً بعد أن تهافت في البقاع التجّار السوريون على طلب الدولار في ظل أزمة سعر الصرف التي استفحلت في سوريا، بعد اقتراب دخول "قانون قيصر" حيّز التنفيذ.

حاولت السلطة هنا التدخّل لإنقاذ الخطّة، باستخدام الذراع الأمنيّة لتوقيف الصرّافين المخالفين، ولقمع تداولات السوق السوداء. لكنّ هذه المساعي باءت بالفشل أيضاً، في ظل توسّع حجم التداولات في هذه السوق بشكل كبير، وعدم وجود وسائل منطقيّة تكفل الحد منها. وفي الواقع، كانت سهولة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي والمجموعات العشوائيّة على الواتساب والفايسبوك، تساهم في تسهيل تداولات السوق السوداء بشكل كبير، وتحد من قدرة أي طرف على التدخّل وضبطها.

في المحصّلة، فشلت الخطّة السابقة، لكونها ببساطة تحاول تخطّي قانون السوق وعوامل العرض والطلب، سواء من خلال استعمال أسلوب التفاهمات الحبيّة مع الصرّافين للتحكم بالطلب، أو عبر استخدام القبضة الأمنيّة لمكافحة البائعين في السوق السوداء.

الإصرار على الخطّة
رغم كل ما جرى، بدا أن مجلس الوزراء مصر على السير في الاتجاه ذاته في طريقة التعامل مع أزمة لبنان بسعر الصرف، مع إضافة شعار جديد هذه المرّة: ضخ الدولار للصرّافين. فعمليّاً، كان يُفترض بالمصرف المركزي في هذه المرحلة، التشدد في تقنين الدولارات المتبقية في حوزته إلى أقصى حدود، كونها تمثّل الاحتياطي الاستراتيجي الذي يمكّنه من التدخّل لدعم أسعار السلع الحيويّة، لحماية الفئات الاجتماعيّة الأكثر هشاشة من تبعات أزمة سعر الصرف. وكان يُفترض أن تتشدد السلطة في التأكد من عدم التفريط بهذه الاحتياطات عبر هدرها في عمليّات تهريب السلع التي يتدخّل مصرف لبنان لدعمها. لكنّ مجلس الوزراء اختار في جلسته الأخيرة أن يطلب من الحاكم –بعكس المطلوب اليوم- أن يقوم بضخ هذه الدولارات للصرّافين المرخّصين على قدر حاجتهم. أما الإشكاليّة الكبرى هنا، فهي أن ضخ هذه الدولارات سيتم اليوم للدفاع عن خطّة أثبتت الأيام الماضية عدم جدواها وعدم واقعيّتها.

فخلال الأيام المقبلة، ومع إستمرار الخلل الكبير بين العرض والطلب، وخصوصاً في ظل استمرار الأزمة النقديّة السوريّة، وما تنتجه من ضغط على طلب الدولار في لبنان، لا يوجد أي مؤشّر يدل على قرب التخلّص من ظاهرة سعر صرف السوق السوداء، الخارجة عن سيطرة الجميع، خصوصاً أنها ناتجة عن عوامل الطلب والعرض الموضوعيّة في السوق. وبالتالي، فالتسرّع في الطلب من المصرف المركزي ضخ الدولارات في السوق، لن يكون سوى هدر لهذه الدولارات لإنقاذ الخطّة التي لا تملك الكثير من حظوظ النجاح.

وعلى أرض الواقع، حتى لو تمكنت خطوة ضخ الدولارات من التسبب بانخفاض طفيف في سعر الصرف في الأيام المقبلة، من المؤكّد أن سعر الصرف سيعاود الارتفاع لاحقاً، بعد انتهاء مفعول هذه الخطوة، خصوصاً أن مصرف لبنان لن يتمكّن من الاستمرار بضخ الدولارات على مدى فترة طويلة. وفي هذه الحالة، سيستفيد من هذه التطورات المضاربين ومن يقدر على شراء الدولارات وتخزينها. مع العلم أن المصرف المركزي اشترط على الصرّافين تبيان سبب شراء الدولارات. لكنّ من المعلوم أن الصرّافين لا يملكون القدرة على مراقبة وتتبع وجهة الدولارات التي سيتم شراؤها منهم. كما لا يوجد طريقة لضمان عدم لجوء الصرافين إلى حصر بيع دولارات مصرف لبنان بعملاء محددين دون سواهم.

أما سائر المقرّرات التي صدرت عن مجلس الوزراء، فهي لا تخرج عن بنود الخطّة السابقة كذلك، كالطلب من الأجهزة الأمنيّة الاستمرار في عمليات توقيف الصرافين غير المرخّصين، والصرافين المرخّصين غير الممتثلين للتعاميم الصادرة عن المصرف المركزي. ومن بين المقررات أيضاً، بنود تناقض مبدأ فصل السلطات، كالطلب من القضاء الاستمرار في اعتقال الصرّافين المعتقلين حاليّا،ً ومصادرهم الأموال المضبوطة بحوزتهم.

بين العراضة الإعلامية والعقوبات
من الواضح أن الحكومة استهدفت من هذه المقررات القيام بعراضة إعلاميّة تحاول من خلالها التملّص من مسؤوليّتها تجاه أزمة سعر، قبل الإيحاء بأن مصرف لبنان هو المسؤول الأوّل والأخير عن ما يجري، بسبب تقاعسه عن ضخ الدولارات في السوق! كما حاولت الحكومة الإيحاء بأنّها قامت بالمطلوب منها عبر التدخّل واستدعاء حاكم المصرف المركزي، وإجباره على ضخ هذه الدولارات. لكنّ هذه "الشعبويّة" في إدارة الأزمة قد لا تكون فعلاً الهدف الأساسي والوحيد من مقررات يوم الجمعة الماضي.

فمن الناحية السوريّة من الحدود، تستمر تداعيات دخول قانون قيصر حيّز التنفيذ، على شكل أزمة نقديّة خانقة وجفاف لجميع مصادر الدولار النقدي في السوق السوريّة. وعمليّاً، هذا ما دفع جزءاً كبيراً من المورّدين السوريين خلال الأيام الماضية إلى البحث عن مصادر للدولار النقدي في السوق اللبنانيّة. وهكذا، ثمّة ما يكفي من دلالات تؤشّر إلى إمكانيّة اتصال الخطوات الحكوميّة الأخيرة بهذه التطوّرات، عبر ضخ الدولار في السوق وخلق متنفّس ما للسوق السوريّة. وعمليّاً، لا تكفل الآليّة التي سيتم اعتمادها لضخ الدولار، أن لا يتم استخدامها لاستيراد سلع ما بالدولار المدعوم من مصرف لبنان، بهدف توريدها لاحقاً للسوق السوريّة، خصوصاً أن جميع الفيديوهات التي تأتي من المناطق الحدوديّة تثبت أن عمليّات التهريب مازالت تتم حتّى اللحظة، وبحجم ضخم ومؤثّر على الوضع النقدي في لبنان.

في كل الحالات، وبمعزل عن أهداف الحكومة من المقررات الأخيرة، من الأكيد أن جميع الأطراف المعنيّة بالأزمة، وخصوصاً الحكومة ومصرف لبنان، مازالت عاجزة عن الوصول إلى تصوّر واقعي لكيفيّة التعامل مع مستجدات أزمة سعر الصرف. وقد يكون هذا الأمر نابع من اتصال أولويّات هذه الأطراف بملفّات أخرى كالملف السوري مثلاً. ولهذا السبب، من المستبعد أن يشعر اللبنانيون بأي تحسّن ملموس في ما يتعلّق بسعر الصرف، وهو ما سيعني ترقّب المزيد من التهاوي في قدرتهم الشرائيّة، والمزيد من الفقر والبؤس.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024