بين المحافظ وبلدية بيروت: صفقة "أكشاك" الكورنيش للفاحشين

خضر حسان

الأحد 2019/07/07
تغيّرت ملامح بيروت كثيراً في زمن السِلم. ابتلعت سوليدير وأخواتها العاصمة وصورتها ومعناها ووجهتها وناسها وزوّارها. وبعد نحو 20 عاماً، يتابع أبناء نهج سوليدير أكل ما تبقّى من متنفّس في المدينة، عبر صفقة تأجير أكشاك (كيوسك) على طول الواجهة البحرية، من الرملة البيضاء وصولاً إلى عين المريسة، كشفتها "المدن"، ويبدو أنها ستستولي على فضاء المدينة وأرصفتها.
منذ الثمانينات، انتشرت تلك السيارات (الفان الصغير) على أرصفة الكورنيش البحري، لبيع المشروبات، بالتوازي مع فوضى عربات الباعة الجوّالين. وفي منتصف التسعينات، قررت الدولة أن لا تدمر مصادر رزق عشرات هؤلاء الباعة وأصحاب الفانات، فحاولت تنظيمهم ومنحهم الرخص وفق شروط تتعلق بأعدادهم وتوزعهم، وتتعلق بالنظافة وعدم وضع الكراسي..إلخ.
بعد سنوات قليلة، صدر قرار بإزالتها كلها، وبمنع العربات الجوالة أيضاً.  
اليوم، يبدو أن الكورنيش البحري عاد ليكون مصدر تربّح ليس لصغار الكسبة، بل لتجار ومستثمرين كبار. الاستيلاء على الكورنيش وعلى المتنفس الوحيد للفقراء ومحدودي الدخل، جار الآن، عبر هذه الصفقة شبه السرية.

صفقة في الظل
يبادر عدد من التجار إلى تقديم طلبات لاستئجار كشك على الكورنيش البحري. يتطلب الأمر بضع أوراق تثبت الوضع المادي للمستأجر. أما قيمة الإيجارات، فتتراوح بين 3500 و6000 دولار شهرياً، وفق الموقع والحجم. 

لم يتم الإعلان عن هذا المشروع بشكل رسمي وعلني. بل يُتداوَل الأمر في الدهاليز السياسية والتجارية، صوناً لحسن توزيع الأكشاك، وفق ما تقتضيه المصلحة الخاصة. ومن يدير عملية التأجير وانتقاء المستأجرين هو شخص يدعى "م.ز". ويُقال أن المستفيد من عائدات المشروع هو بلدية بيروت. والمستفيد من تصنيع الأكشاك هو أحد المسؤولين السياسيين، الذين يعملون في القطاع الصناعي، ويدعى "ن.أ".

ينفي رئيس بلدية بيروت جمال عيتاني علاقة البلدية بهذا المشروع. وبتلعثم واضح في الكلام، يؤكد عيتاني لـ"المدن"، أن "محافظ بيروت (زياد شبيب) هو من اتخذ القرار وسلّم المشروع إلى إحدى الشركات"، مشيراً إلى عدم معرفته بهوية الشركة المستفيدة. وبالتوازي مع كلام عيتاني، تؤكد مصادر في محافظة بيروت لـ"المدن"، ان المشروع "مطروح في المحافظة، لكن لا أحد يملك المعلومات الواضحة حوله"!؟

تضارب في الصلاحيات
يتردد عيتاني قليلاً في الإجابة عن الجهة المناط بها اتخاذ قرار إنجاز المشروع قانونياً، ويقول: "لا أدري، أعتقد أنها من صلاحيات المحافظ.. هناك اجتهادات حول الصلاحيات"!

إذن، قرار المشروع اتخذه المحافظ، في حين أن الصلاحيات، قانوناً، تعود للمجلس البلدي، الذي "يتخذ القرارات المتعلقة بالمشاريع ذات منفعة عامة في النطاق البلدي"، على حد تعبير مصادر في البلدية، والتي تشير في حديث لـ"المدن" إلى أن مسار هكذا مشروع "يبدأ من البلدية، التي تتخذ القرار وتضع كافة الشروط والتفاصيل والمواصفات والمؤهلات، ويُحال الملف إلى المحافظ، الذي ينفذ قرار المجلس البلدي ويصدر الترخيص بالمشروع". وللتأكيد على هذا المسار، "اتخذت البلدية السابقة قراراً حول مشروع إنشاء بيوت حرس، والمجلس البلدي صمم واختار نقاط توزيع البيوت، فيما المحافظ نفّذ القرار". أما اليوم، "المحافظ يتخذ القرارات وينفذها. فالمحافظ مثلاً أعطى ترخيصاً لمدة 3 أشهر، لعربات متنقلة في منطقة الحمرا، من دون علم البلدية"!

المشروع رُفِضَ سابقاً
في الظاهر، يبدو المشروع بسيطاً وعادياً. لكن التدقيق بمجريات الأمور، يفضي إلى ما هو أعمق. فالمشروع ليس وليد اللحظة، بل "طُرِح سابقاً في بلدية بيروت، على مستوى فردي وليس رسمي، ضمن اجتماعات البلدية. لكن رئيس البلدية السابق بلال الحمد، لم يفتح المجال لولادة هذا المشروع لأسباب كثيرة"، حسب ما تقوله مصادر في بلدية بيروت لـ"المدن".

سبب الرفض، من وجهة نظر المصادر، هو إلتفات الحمد لنقطتين أساسيّتين. الأولى، أن "المشروع سيؤدي إلى تشويه منظر الكورنيش البحري. فالكشك الذي سيبدأ ببيع فنجان قهوة مثلاً، سيوسّع نشاطه نحو النرجيلة والبوظة وغيرها. ولن يكون هناك إمكانية لضبط الوضع بشكل كامل". والنقطة الثانية هي "توزيع الأكشاك كحصص بين الطوائف والأحزاب في بيروت. وبذلك ستدخل البلدية بمحاصصات سياسية ومذهبية". وتضيف المصادر أن "ما تقوم به المحافظة وفق هذا المشروع، سيفتح الباب أمام مشاريع مماثلة في أكثر من منطقة داخل بيروت، ولن يقف الأمر عند الواجهة البحرية".
وما يسلط الضوء على الطابع الصفقاتي للمشروع، هو التساؤلات حول قيمة إيجار كل كشك. من يحددها، ومن يخمّن تلك القيمة، في ظل وجود تفاوت في كلفة الإيجار، ومن يعيّن لجنة التخمين، ومن يختار تصميم الأكشاك؟.

جدوى المشروع
يسأل رئيس بلدية بيروت السابق بلال الحمد في حديث لـ"المدن"، عما إذا كانت مصلحة اللبنانيين في بيروت تقتضي بناء الأكشاك على الواجهة البحرية: "ما هي الحسنات والسلبيات؟ من سيضبط التجاوزات"؟ يقول الحمد. ويضيف أن "هذا المشروع سيغير وجه المدينة ومنظرها واستعمالات الأرصفة فيها. وعلى المجلس البلدي اتخاذ مثل هذا القرار".

بعيداً عن الجهة المناط بها إتخاذ القرار، فإن هذا المشروع مصمم لفئة إجتماعية محددة، وهي التجار الأغنياء حصراً. إذ سيحتكر هؤلاء عملية البيع على الواجهة البحرية، بأسعار يحددونها هم، وهي بالتأكيد ليست "تشجيعية"، لأن كلفة إيجار الكشك لن تكون أقل من 3500 دولار شهرياً، وعلى المستأجر تأمين هذا المبلغ قبل أي شيء آخر، وهو مبلغ لن تحصّله الأسعار المتداولة في أي دكان عادي.

الأسعار المرتفعة ستُفرَض على الفئات الفقيرة ومتوسطة الدخل، فأبناء تلك الفئات الإجتماعية هم السواد الأعظم من رواد الواجهة البحرية، خصوصاً في منطقة عين المريسة والرملة البيضا. وهؤلاء، رغم كونهم الجهة المستهدفة من المشروع، لا يُسمَح لهم بالاستثمار بأكشاك منخفضة الإيجار، أو حتى بعربات متحركة. وبذلك، مطلوب من الفئات الشعبية تأمين أرباح للأغنياء من دون الحصول على فرصة تأمين ربح لهم، ولو بسيطاً. فهؤلاء قد يستطيعون دفع إيجار أو بدل ترخيص للبلدية يتراوح بين 200 إلى مليون ليرة شهرياً، على سبيل المثال، وقد يستطيع البعض دفع ألف دولار شهرياً، لكن من يستطيع دفع أكثر من 3000 دولار غير الميسورين؟. والأهم، أن كشكاً بهذا الإيجار الذي قد يصل إلى ستة آلاف دولار شهرياً، لا يمكنه أن يبيع بأسعار مناسبة لرواد الكورنيش الحاليين. فهل يريدون تحويله على صورة "أسواق بيروت" وسوليدير الفارغة من الناس، ولا يقصدها إلا من هم فاحشين ثراءً وأشياءً أخرى. 
وعليه، فإن جدوى المشروع لا يصب في مصلحة أبناء المدينة، بل في مصلحة المنتفعين، تجاراً وأصحاب قرار.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024