"ألا لا يجهلنّ أحدٌ علينا"

عصام الجردي

الإثنين 2020/01/13

ألا لا يجهلنّ أحدٌ علينا فنجهل فوق جهل الجاهلين
بأي مشيئةٍ عمرو بن هندٍ تطيع بنا الوشاة وتزدرينا؟

صاحب الشعر عمرو بن كلثوم. مقامُه في حضرة عمرو بن هندٍ ملك الحيرة، يوم دعا الأخير إلى حل الخلاف المستعصي بين قبيلة بكر وبين قبيلة تغلب. يومها تقاطر الشعراء ووجهاء القوم يتملقون ملك الملوك في العصر الجاهلي، والكل يريد وصلًا بدينار، أو بمكرمة من صاحب الدار. وحده إبن كلثوم أسمع الملك الحقيقة قصيدة من مئة بيت. مات ملك الحيرة. وبقيت قصيدة عمرو بن كلثوم مكتوبة بماء الذهب.

بعد الكلام الذي قاله حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في مقابلته التلفزيونية الأخيرة، قال إنه وجّه كتابًا إلى الحكومة يطلب صلاحيات استثنائية "لاتخاذ الإجراءات القانونية المناسبة من قبل السلطة ذات الصلاحية لتكليف مصرف لبنان الصلاحيات الإستثنائية اللازمة لإصدار الأنظمة المتعلقة بالأوضاع .. التي حملت المصارف العاملة في لبنان على اتخاذ بعض التدابير الموقتة لجهة فرض قيود على بعض العمليات المصرفية وعلى التحويلات المصرفية إلى الخارج وعلى سحب الأوراق النقدية" وغيرها. قال إن مصرف لبنان لا يملك النصوص القانونية التي تخوله تنظيم الإجراءات وتوحيدها بين المصارف لتطبيقها بعدالة ومساواة. الأهم أن الكتاب ربط الصلاحيات الاستثنائية "للحفاظ على الاستقرار النقدي والمصرفي الذي يشكل أحد المهمّات الأساسية المنوطة بالمصرف المركزي، وحماية للمصالح المشروعة للمودعين والعملاء" على ما جاء في الكتاب.

حاكم مصرف لبنان يريد صلاحيات استثنائية. وقد خوّله قانون النقد والتسليف من صلاحيات لا تتوفر لأي رئيس مصرف مركزي في العالم. ولا لرئيس جمهورية لبنان ولرئيس حكومته. وكل ذلك بلا رقابة كل هيئات التفتيش المركزي والمالي والمحاسبي والإداري ومجلس النواب ولجانه. تعاميم مصرف لبنان بذاتها لها قوة القانون في مجالات كثيرة. وهي "معصومة من النقد حكوميًا وسياسيًا". الشاطر من يروّج لها. لا بأس، يريد المزيد من الصلاحيات من دون أن يحددها بالضبط. نفهم ممّا ورد في كتابه إلى الحكومة إنه لتنظيم الفوضى القائمة بين المصارف وبين مودعيها والتمييز بين مودع وبين آخر. وربما شملت الجانب النقدي وسعر الصرف. أمّا أن تؤدي الصلاحيات الاستثنائية إلى "الاستقرار النقدي والمصرفي"، ففتحٌ مُبين.

يرفض سلامة وصف تمويل مصرف لبنان الدولة بأنه لتمويل المنظومة السياسية. وينعت قائليه بـ"الغشّ". ويردّ بأن البعض يلومه لأنه لم "يدع الدولة تُفلس". أسوأ الكلام وأمكره حين يكون نصفه حقيقة والنصف الآخر عكسها. نعم أنت رياض سلامة موّلت منظومة الفساد السياسي والنظام السياسي الفاسد الذي أفلس قبل أن تفلس الخزانة. الإعسار يأتي محصّلة. هذا ليس غشّاً. كتبنا هذا الكلام قبل سنوات أربع. لدينا الكثير لنكتبه بعد. أحسبك تَعلم ذلك! أمّا الملامة على عدم تركك الدولة تُفلس فلم تنسبه إلى مصدر. لن نعرض لتصريحاتك ومواقفك بالمجلدات عن سوء السياسة المالية وعدم الإصلاح والفساد وتحميلها كل المثالب التي وصلنا إليها. التنصّل من مسؤولياتك حاكمًا مطلقًا لمصرف لبنان ونكاد نقول للجمهورية مزاحٌ ثقيل! سنتابعك من كتابك طلب الصلاحيات الاستثنائية.

التمويل الكارثي!
أولًا: مصرف لبنان هو مصرف القطاع العام والدولة اللبنانية بحسب قانون النقد والتسليف. يتمتع بالاستقلال المالي عن الدولة. تتهِّم السياسة المالية والعجز المالي والحكومات بمسؤوليتها عن ذلك. بالتأكيد لا تستقيم سياسة نقدية واقتصاد بمعزل عن المالية العامة. ماذا فعلت أنت؟ قانون النقد والتسليف حدّد مجالات تمويل الدولة. وقد تجاوز مصرف لبنان كل تلك الحدود والمجالات. وتوكيدًا، "لتمويل منظومة فاسدة ونظام سياسي زبائني". إلى الحدّ الذي بات تهديدًا مباشرًا للقطاع المصرفي ومصرف لبنان معًا.

ثانيًا: لماذ القفز إلى المادة 71 من القانون؟ المادة 13 فيها الخبر اليقين: المصرف المركزي شخص معنوي من القانون العام ويتمتع بالاستقلال المالي. وهو يعتبر تاجراً في علاقاته مع الغير. ويجري عملياته وينظم حساباته وفقًا للقواعد التجارية والمصرفية وللعرف التجاري والمصرفي. هل تعامل مصرف لبنان مع الدولة وبالعُرف التجاري وبالاستقلال المالي؟ لا يوجد مصرف تجاري يقرض عميلًا واحدًا وينكشف عليه بهذه الخطورة ليتعرّض كيانه للخطر.

ثالثًا: المادة 88 من قانون النقد والتسليف تحدد أصول طلب الدولة قروض من مصرف لبنان بـ"تسهيلات صندوق لا يمكن أن تتعدى قيمتها 10 في المئة من متوسط واردات (إيرادات) موازنة الدولة العادية في السنوات الثلاث الأخيرة المقطوعة حساباتها. ولا يمكن أن تتجاوز مدة التسهيلات أربعة أشهر". ونص المادة 90 واضح بلا لبس. "المبدأ ألاّ يمنح المصرف المركزي قروضًا للقطاع العام باستثناء تسهيلات الصندوق". أي تسهيلات صندوق هذه التي حوّلت مصرف مركزي صنبورًا لتمويل النظام السياسي الفاسد وليس الدولة. لأن الدولة الحقيقية بمؤسسات ودستور وقوانين لا يمكن أن تسمح لمصرف مركزي تمويل خزانة وموازنة سنوات ومن دون قطع حسابات ولا من يحزنون. مصرف لبنان فعلها وجرّ معه المصارف ورفع الفوائد وعطّل الاقتصاد والنمو.

يكفي أن نعرض للمادة 91 من قانون النقد والتسليف لتتظهّر الصورة بوجل. "إلاّ إنه في ظروف استثنائية الخطورة، أو في الضرورة القصوى إذا ما ارتأت الحكومة الاستقراض من المصرف المركزي، تحيط حاكم المصرف بذلك. يدرس المصرف مع الحكومة إمكانية (إمكان) استبدال مساعدته بوسائل أخرى، كإصدار قرض داخلي، أو عقد قرض خارجي، أو إجراء توفيرات في بعض بنود النفقات الأخرى، أو إيجاد موارد ضرائب جديدة. وفقط في الحالة التي يثبت فيها إنه لا يوجد أي حل آخر، وإذا ما أصرّت الحكومة مع ذلك على طلبها، يمكن المصرف المركزي أن يمنح القرض المطلوب. حينئذٍ يقترح المصرف على الحكومة إن لزم الأمر، التدابير التي من شأنها الحدّ ممّا قد يكون لقرضه من عواقب اقتصادية سيئة، وخاصة (وخصوصًا) الحدّ من تأثيره في الوضع الذي أعطي فيه على قوة النقد الشرائية الداخلية والخارجية". هذه التحذيرات صدرت قانونًا في 1963. رياض سلامة أنت في مملكة مصرف لبنان محميٌ بالقانون بكل مواده. هل طبّقت القانون كي تطلب صلاحيات استثنائية؟

الهندسة والمهندس
رابعًا: الهندسة المالية التي تجاوزت تكلفتها 5 مليارات دولار أميركي. هل يُعقل أن تمرّ من دون قرار المجلس المركزي لمصرف لبنان؟ سلطة القرار فيه. لا أحد أرغم سلامة على تجاوز القانون. هذا برسم القضاء.

23 عامًا والنشيد النقدي يلاحقنا صباح مساء. الدولرة قرب 70 في المئة من الدوائع. اليوم نحو 75 في المئة. 25 في المئة بالليرة اللبنانية ليست قابلة كلها للتحول إلى الدولار الأميركي لأنها عائدة إلى مؤسسات عامة. يعني أن الودائع القابلة للتحول نحو 22 في المئة. كيف التهمت 22 في المئة ليرة لبنانية 75 في المئة عملات أجنبية خلال أسابيع؟ ويكتشف المودعون أن الودائع بالعملات الأجنبية يمكن سدادها بالليرة اللبنانية. هذا كلام لم يقله سلامة أبدًا ولا تفوّه به غيره. لا بأس. هل تصلح الليرة اللبنانية لسداد القروض بالعملات الأجنبية؟ هل فعلًا يريد حاكم مصرف لبنان صلاحيات استثنائية؟

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024