تظاهرات بلا جدوى: أسعارٌ سترتفع وسلعٌ ستُفقَد

خضر حسان

الأربعاء 2020/10/14
ذَهَبَ النقاش الاقتصادي بعيداً مع استمرار الأزمة في التعقيد، لدرجة استحال معها إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. لا مجال لاستعادة الأحوال السياسية والاقتصادية، ولا مجال لتحسين الأحوال. ومع ذلك، لا ينفكّ أهل القطاعات الاقتصادية والروابط والنقابات والاتحادات، عن رفع المطالب الاقتصادية والاجتماعية، وعلى رأسها رفض رفع الدعم على الدواء والقمح والمحروقات. وحَمْلُ المطالب تطوَّرَ إلى دعوة للتظاهر يوم الأربعاء 14 تشرين الأول.

مطالب رمزية
التظاهر يحمِل مطلبَ حقٍّ، لكنه متأخّر جداً. فرفع الدعم يُفتَرَض به التأثير سلباً على الفئات الاجتماعية الفقيرة والمتوسطة، حين سترتفع الأسعار بالتوازي مع اختفاء السلع، وعلى رأسها الدواء الذي يشهد حالياً موجة تخزين وتهريب، تؤدي إلى انقطاع أصناف كثيرة من الصيدليات.

على أنّ التظاهر لا يعدو كونه خطوة رمزية من فئات لم تعد تملك سوى اليأس، حتّى بات التظاهر بالنسبة لها خشبة خلاصٍ، وربّما أيضاً، عملٌ ثوريّ. إلاّ أن التأخر الزمني في اتخاذ خطوة الغضب هذه، أفقَدَ التحركات هيبتها وتأثيرها وثوريّتها. كما أنَّ التمعّن قليلاً في هوية المتظاهرين والداعين إلى الاضراب والاقفال، تُفضي إلى التقليل من حجم الانفعال والحماسة. فالثوّار الجدد ليسوا سوى جهات لا تخرج عن طاعة السلطة السياسية التي تُنَصِّبُ القيادات على هواها، ومَن يخرج عن الطاعة، يُطرَد بعيداً، كما حَصَلَ ذات يومٍ مع نعمة محفوض وحنّا غريب، في معركة سلسلة الرتب والرواتب. وما خلا ذلك، لا يعدو كونه صوتاً فردياً داخل نقابات مُسَيطَر عليها. وهذا حال الصيادلة الذين أعتصموا اعتراضاً على تخزين الأدوية ورفع أسعارها واحتكارها، من دون احتضان رسمي من نقابتهم.

إشكالية لا مفرَّ منها
رفض رفع الدعم هو العنوان الأساس للتحركات ولتطلّعات المواطنين وآمالهم بالحفاظ على فتات ليرة تضمن شراء الحاجيّات. إلاّ أنّ آليات الاقتصاد لا تتّفق دائماً مع رغبات المحتاجين، فرفع الدعم هو تحصيل حاصل مستقبلاً، مهما كابَرَ المعترضون وراسِمو السياسات الاقتصادية والنقدية، ومهما رَفَضَه المتضرّرون، وذلك لأسباب علمية ثابتة. وهذا الأمر يفرض إشكالية لا بدّ من بحثِها اقتصادياً.

تكمن الإشكالية في الوقوع بين ضرورَتَين، الاستمرار في التخفيف عن كاهل المواطنين، وحقيقة تناقص الدولارات المستعملة للدعم. وما بينهما، حقيقة أنّ الدعم لا ينبغي أن يكون من جيب المدعوم، فذلك ينفي صفة الدعم عن الأسعار.

ولذلك، يصبح لزاماً التأكيد على أن الدعم المموّه الذي امتهنته السلطة السياسية، عبر مصرف لبنان، ليس سوى لغة تسويقية شعبوية على حساب الناس، تُشبه تماماً مَن يدعوكَ إلى العشاء على حسابك الخاص. فمصرف لبنان يدعم السلع الأساسية من أموال المودعين في المصارف، ويتّجه في القريب العاجل إلى الكفّ عن دعوة المواطنين للعشاء على حسابهم.

انطلاقاً من راهنية الحالة اللبنانية، لا رفع الدعم مفيداً ولا استمراره. فالحالة الأولى تُرهِق المواطنين، والثانية تستنزف ما تبقّى من أموالهم المحتجزة في المصارف. ولا تملك الجهات النقابية الثائرة حلاًّ لهذه الاشكالية، وإنما تملك صوتاً اعتراضياً من المفترض أن يتّجه ضد السلطة السياسية، وهو ما لم يحصل طوال سنوات من السُبات النقابي العميق.

الحل سياسي لا اقتصادي
يُخطىء من يظنّ أن حل الأزمة الاقتصادية هو اقتصادي، فمُنطَلَق الأزمة سياسيّ وحلّها سياسي، لأن هدر المال العام وودائع الناس قرار سياسي، واستمرار التخبّط قرار سياسي، والضغط الخارجي ومحاولات ابتكار حلّ، سياسيّ أيضاً.

على المستوى الاقتصادي والنقدي لا يمكن فعل شيء. تجاوَزَنا قطار الحل بمسافة طويلة، وإن تظاهَرت واعتَصَمت نقابات لبنان بكل تناقضاتها وتشابهاتها، فإنّ دولاراً واحداً لن يُرسَلَ إلى السوق من دون خطّة سياسية داخلية وخارجية. فالحلّ إذاً سياسي، ومَقرون بإغداق الدولارات في السوق بوتيرة ترفع معدّل العرض مقابل الطلب، فتنخفض قيمة الدولار لكثرة المعروض، وترتفع قيمة الليرة، وهذا حلمٌ بعيد المنال.

هل هذا يعني الاستسلام؟، ليس بالضرورة. إذ يمكن للحكومة أن تخفف وطأة الأزمة من خلال تخفيف إنفاقها العام، الذي بلغ خلال الأشهر الخمسة الأولى من العام الحالي، نحو 4 تريليون ليرة، أولاً عبر وقف الهدر في مؤسسة كهرباء لبنان. وهو هدرٌ يكلّف الخزينة نحو 1.5 مليار دولار سنوياً، من دون طائل. ويمكن احتساب حجم الكارثة فيما لو تمّت مقاربة المبلغ الدولاري بسعر السوق السوداء. كما يمكن للحكومة بذل مجهود لوقف التهريب نحو سوريا، فالدولارات اللبنانية تخدم السوقين اللبناني والسوري.. على أنّ كل الحلول، يجب أن تستقرّ على قاعدة الاقتناع بأنها حلول آنية وليست استراتيجية ونهائية.

تحرّك يوم الأربعاء لا يمكن أن يكون مفيداً إلاً إذا حَمَلَ بُعداً سياسياً يليق بحجم الغضب. فهل تسكت النقابات عن لغة التحاصص السياسي لقوى السلطة وإصرارها على تقاسم الوزارات بخلفية مذهبية؟ وهل تسكت النقابات عن تقاعس الجهاز القضائي؟

حجم الأزمة يقول "لا"، فيما واقع الهيمنة السياسية على النقابات يقول "نعم". سيسكت الجميع، لتبقى التحركات الفلكلورية سيدة الموقف، فيما الأزمة الاقتصادية والنقدية تتراكم، لينتهي المطاف بالسوق غارقاً بشحّ السلع وارتفاع أسعار ما وُجِدَ منها.

الدعم غير موجود
لا وجود للدعم طالما انّه يأتي من جيب المواطن، ولا تصب نتائجه في مصلحة المواطن. فالدولة تدعم التجّار على حساب المستحقّين الحقيقيين للدعم. وهذه الحقيقة، بيَّنَتها جمعية المستهلك حين حذّرت وزير الصحة حمد حسن، من دعم الدواء من دون آلية علمية حقيقية. والوزير لم يكترث للتحذيرات، فأدّت سياسة الدعم الخاطئة إلى "دعم المستوردين بدلاً من دعم المرضى".

ولأن الدواء يحمل قوّة خاصة تمسّ جميع المواطنين، كان الأجدى بالوزارة دعم الأدوية الأساسية الجنيسية والتي لا يتعدّى عددها بحسب منظمة الصحة العالمية الـ200 دواء، بدل دعم كل الأدوية بما فيها "البراند" وأدوية الأغنياء، على حدّ توصيف الجمعية، التي ترى أنّ المستوردين والمستودعات والصيدليات مسؤولة عن الأدوية وإخفائها ويجب مقاضاتها، فيما المسؤول الأول هو وزير الصحة والتفتيش القضائي.

الدعم حتى اللحظة إسميّ. سيترنّح قليلاً ليسقط. فيُترَك الناس لمصيرهم، فيما النقابات ستختفي تحت ضغط أحزاب السلطة، وستتحرّك إن فَعَلَت، لتخفيف الضغط عن السلطة، عبر تظاهرات موسمية لا طائل منها. أمّا الدولار، فسيحلّق عالياً، والسلع ستختفي، والدعم سيصبح "نكتة" سمجة، فيما هو الآن مسرحية هزيلة.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024