الإصلاح... قميص عثمان

حسن الحاف

الإثنين 2014/05/19
بات إصلاح الإدارة العامة في لبنان مجرّد حجّة ضد تحسين شروط حياة العاملين فيها. إذ ما ان يطرح موضوع تحسين رواتب العاملين في القطاع العام، حتى يخرج من يربط هذا التحسين بالإصلاح. علماً أنه ليس تحسيناً بمعنى رفع القدرات الشرائية، وإنما هو تصحيح للأجور يعيد إليها قوّتها التي خسرتها بفعل معدلات التضخم السنوية. 
لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل تفتح مساجلة نظرية عقيمة الطابع مفادها لمن الأولوية: إصلاح النفوس أم النصوص؟ وهو سجال غالباً ما ينتهي كما بدأ، أي بتعقيد المعقد! 
على ان أحداً من الرافضين لتصحيح أجور موظفي الدولة لا ينبس بكلمة في الأوقات الطبيعية في ما يخص الفساد المستشري في إدارات الدولة. مصدر إمتعاضهم الأساسي بروز إمكان تصحيح أوضاع الفئات الأضعف في المجتمع اللبناني، لا أكثر. ذاك ان هؤلاء، وغالبيتهم فاعلون في الشأن العام، لا يكترثون لأوضاع أجهزة الرقابة، ولا يسألون عن مواطن الضعف فيها. أصلاً، حتى لو تعرّضوا لمظهر من مظاهر الفساد في إحدى الإدارات، كطلب رشوة لقاء أداء خدمة معينة لصالحهم، تراهم يشتركون في الفساد، من دون ان يكلفوا أنفسهم عناء رفع شكوى إلى التفتيش المركزي. يزعجهم طلب موظف فاسد رشوة، لكن لا يزعجهم البتة كونهم الطرف الثاني والضروري في معادلة لا تقوم على طرف واحد. 
يقول مرجع إداري كبير لـ"المدن" أن إصلاح الإدارة العامة قضية حيوية، لكنها متعذرة في ظل الإنقسام العميق بين مختلف القوى السياسية. فالإدارة العامة تعاني من شغور قوي، كما ينعكس عليها عدم الإستقرار السياسي، خصوصاً في فترات الإنتقال من حكومة تصريف الأعمال إلى حكومة قيد التشكيل. وبعد ان تشكل حكومة جديدة، تنعكس الخلافات داخلها من جديد على الإدارة، الأمر الذي يضعف الإنتاجية، ويعزز الفساد. 
على أن المرجع يؤكد وبملء الثقة أن وضع الإدارة العامة في لبنان جيد، بعكس ما هو شائع. فحيث "يوجد وزير فاسد، هناك إدارة فاسدة، وحيث هناك وزير جيد، ترى الإدارة جيدة". ويضيف "إذا كانت الطبقة السياسية مستعدة لرفع يدها عن الإدارة، فإنها ستتحسن، وستتقلص كثيراً التدخلات، على ما هو حاصل في القضاء والدرك على سبيل المثال". فالتدخلات تلغي مبدأ المحاسبة من أصلها، وتحيل الإدارة ملكية سائبة، لا حسيب عليها ولا رقيب. ويضرب مثلاً على ذلك، ممارسات بعض وزراء حكومة الرئيس نجيب ميقاتي الأخيرة خلال فترة تصريف الأعمال. إذ لم يلتزم هؤلاء بالتعاميم التي تحدد أطر العمل الوزاري "بالمعنى الضيّق لتصريف الأعمال". لا بل قام بعضهم بـ"تعيين 400 أو 500 موظف في إدارته، خلال هذه الفترة، بلا إمتحان في مجلس الخدمة المدنية، ولا من يحزنون". هؤلاء، إذن، يقول المرجع، دخلوا في وضع غير قانوني ولا يمكن التعويل عليهم. والأرجح أنهم سيكونون في عداد الموظفين الفاسدين لأنهم يخدمون مصالح فلان أو علان. 
لكن، أين التفتيش المركزي؟ 
لا سلطة للتفتيش على أعمال الوزراء، يقول المرجع. وهو كجهاز رقابي يعاني من شغور قوي، حيث نصف ملاكه شاغر. وهو أصلاً ملاك غير كافِ، لأنه ملحوظ في العام 1959، أي قبل بلوغ حجم الإدارة العامة المستوى الذي بلغته اليوم. علماً انه تم تعيين مفتشين في موجة التعيينات الأخيرة في مجلس الوزراء.   
في الواقع، أصدر التفتيش المركزي تعميمين إلى المواطنين منذ فترة. كلاهما يحمل دعوة لتبليغ إدارة التفتيش بأي مشكلة قد يتعرض لها المواطن أثناء وجوده في إدارة رسمية. بيد ان أحداً لم يرفع شكوى إلى التفتيش في هذا الإطار.  وإذا كان مفهوماً أن ثقة المواطنين بإدارات الدولة باتت في الحضيض، إلا انه من غير المفهوم تماماً ان يقف المواطنون متفرجين على ما تتعرض له إدارتهم، من دون ان يحرّكوا ساكناً. إصلاح أوضاع التفتيش المركزي قد يكون مقدّمة ضرورية للشروع في محاصرة الفساد في الإدارة العامة. وما التقارير التي ينشرها التفتيش المركزي سنوياً، الذي يعمل بالحد الأدنى من طاقته، إلا دليل إضافي على ما تقدم.  
صفوة القول أن الحاجة باتت ماسة للشروع في عملية إصلاح الإدارة العامة، من مكان محدّد ومعلوم، ذي نتائج مضمونة على المدى الطويل. إصلاح أجهزة الرقابة التي نشأت في معظمها إبان العهد الشهابي يفترض أن يحتل موقعاً مركزياً على رأس قائمة الأولويات. 
أمّا إنتظار إنتهاء النقاش السرمدي بين دعاة إصلاح النفوس ودعاة إصلاح النصوص، فهو أقصر الطرق لتمكين الفساد أكثر ممّا هو متمكن الآن. هذا، على فرض ان المتصارعين خالصو النية للإصلاح!  
لم يعد جائزاً أن يغدو إصلاح الإدارة العامة كـ"قميص عثمان"، لكن، هذه المرّة، الملوث بالفساد بدلاً من الدماء. قميصٌ لا يرفع إلا في وجه الموظفين، كلما إضطرتهم ظروفهم البائسة إلى المطالبة بتحسينها.      
  
 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024