الفساد المُستشّرس

البروفيسور جاسم عجاقة

الأربعاء 2017/02/01
كشفت مُنظمة الشفافية الدولية في تقريرها السنوي عن الفساد في العالم، أن لبنان يحتلّ المرتبة ١٣٦ عالمياً من أصل ١٧٦ دولة. هذا التصنيف السيء للبنان له تدعيات سلبية على كلّ الأصعدة.

التصنيف الذي صدر عن مُنظمة الشفافية الدولية بخصوص لبنان كان متوقّعاً من كثيرين من اللبنانيين الذين يُعانون آفة الفساد. وليس جديداً القول إن للفساد تداعيات سلبية على المالية العامّة والاقتصاد عامّة. وإذا كانت آلية التأثير السلبي واضحة إلا أنه يجب معرفة أنه من شبه المُستحيل أن يكون هناك إنماء بوجود الفساد.

في العام ١٩٩٥، أعد الباحثان أديس ودي تيلّا دراسة تأثير مخاطر الائتمان والإاستثمار في ٥٢ بلداً. واكتشف الباحثان من طريق الصدّفة أنه إذا ما ارتفع الدخل الفردي بقيمة ٤٤٠٠ دولار أميركي، فإن مرتبة البلد تتحسن في مؤشر الفساد نقطتين (على مقياس من صفر إلى ١٠). وأثبت الباحثان أن التعرض للمنافسة يُحسنّ تصنيف البلد. هذه النتائج تؤكد العلاقة الوطيدة بين التخلّف الاجتماعي والفساد، لكن أيضاً تُظهر بعداً إقتصادياً عميقاً للفساد.

وينص تقرير لمنظمة التعاون والتنمية أن الفساد يخلق من تجمّع مصالح سياسية، بيروقراطية، وإقتصادية. ومن يدفع الرشوة يهدف بالدرجة الأولى إلى تخفيف الكلفة بشكل غير قانوني ليلتقي بالتالي مع من يقبض الرشوة والذي يهدف إلى تعظيم مصالحه على حساب المصلحة العامّة. وهذا الأمر مُخالف للقانون ويُعرّض كل من يشترك به إلى المُلاحقة القانونية.

ويأتي مؤشر الفساد الذي تنشره منظّمة الشفافية الدولية ليُظهر أن نسبة الفساد في الدول المتطورة إقتصادياً واجتماعياً هي أقل من الدول في طور النمو، مثل لبنان. ويذكر تقرير منظمة التعاون والتنمية أن غياب قانون يُنظّم تمويل الأحزاب السياسية يُشكّل المنظومة الأساسية التي تحضن الفساد في البلدان في طور النمو من خلال غياب إستقلالية القضاء. هذه المُشكلة تم حلّها بشكل كبير في الدول المتطوّرة مع انشاء منظمة التعاون والتنمية التي وضعت ضوابط أصبحت اليوم جزءاً لا يتجزأ من قوانين هذه الدول.

الاقتصاد متضرّر أساسي في منظومة الفساد، فالإستثمارات تنخفض بشكل كبير في البلدان التي يشوبها الفساد. وهذا ما تؤكّده دراسة للباحث الإيطالي مورو في العام ١٩٩٧، الذي درس ٦٧ بلداً وتوصّل إلى أن الاستثمارات تتدنّى مع ارتفاع الفساد والعكس بالعكس. بالتالي، فأن تحسين رتبة البلد نقطتين على مقياس الفساد كفيل برفع الاستثمارات بنسبة ٣٪ ونسبة النمو بـ٠.٥٪

المالية العامّة ليست معفية من الفساد، فالمنقاصات العامة تُعتبر الملعب المُفضّل للفساد. ويقول تقرير منظمة التعاون والتنمية أن اختيار المشروع يتم على أساس سهولة الحصول على الرشوة، وبالطبع قيمتها.وهذا على حساب مشاريع حيوية للإقتصاد والمجتمع. ما يؤدّي إلى اعتماد مشاريع مكلفة ودون أهمية اقتصادية. وهذا ما يُعرف في عالم الإقتصاد بـ"الفيل الأبيض".

الفسا، وفق النظرية الإقتصادية، هو عدو السياسات الاجتماعية، وعلى رأسها مشاريع محاربة الفقر والإنماء المتوازن.

لا يُمكن التمييز بسهولة بين التداعيات السياسية والتداعيات الإقتصادية للفساد، لكن سلطة السوق (Pouvoir du marché) تسمح بالتمييز بينهما. هناك أربع حالات ممكنة تضع الطلب (لاعب من القطاع العام) مع العرض (لاعب من القطاع الخاص):

1- حالة الاحتكار الثنائي: في هذه الحالة السلطة موزّعة بالتساوي بين القطاعين العام والخاص، حيث أن النخبة السياسية والإقتصادية عددها قليل ومتناغمة في ما بينها. هذه الحالة توجد في البلدان المُتطوّرة وعمدت فيها النخبة إلى منع الفساد الصغير الحجم (موظف عادي).

2- هي الحالة التي يُسيطر فيها الطلب على العرض (Cleptocraties). وهذا ما نراه في البلدان في طور النمو، حيث أن القطاع العام هو من يفرض حجم الرشى. وهو ما يُعرف بالابتزاز. وهذا الواقع يدفع القطاع العام إلى وضع القطاع الخاص في حال تنافس، وفي بعض الأحيان يتم استخدام القوة والبلطجة. بالطبع، يُمكن الاستنتاج أن القطاع الخاص هو في حال ضعف تجاه القطاع العام، وأن حقوق الإنسان وح الملكية غير محترم. ويُصنّف هذا النوع من الفساد بالفساد المُستشّرس الذي يُعطي أكثر المفاعيل السلبية، حيث أن لاعبي القطاع الخاص يقومون بكل ما يستطيعون للحصول على مناصب في القطاع العام بهدف التخلّص من هيمنة القطاع العام (شراء المناصب).

3- العرض يفوق الطلب، أي أن هناك نخبة من القطاع الخاص (عادة شركات عالمية) تقوم بالضغط على القطاع العام بهدف الحفاظ على الفوقية. بالتالي، فإن الدولة تكون خاضعة لابتزاز هذه الشركات مثل حالة شركة النفط Elf مع الدول الأفريقية في تسعينات القرن الماضي.

4- حالة تشرذم العرض والطلب. بالتالي، فإن الفساد يبقى بمستويات متدنّية بسبب كثرة اللاعبين من الطرفين (حالة أوكرانيا).

إذا كان شعار العهد الجديد هو محاربة الفساد والذي تترجم بإنشاء وزارة دولة لمحاربة الفساد، فإن العمل في هذا الإطار يتطلّب كثيراً، خصوصاً أنه يجب أن يبدأ على مقاعد الدراسة لعلنا ننتهي من هذه الآفة بعد عقدين من الأن.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024