بِكم منكوبةٌ بيروت

عصام الجردي

الجمعة 2020/08/07

لو قُدّر للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن يفعل ما فعله الرئيس الراحل جاك شيراك في 2005 بعدم زيارة أي من المسؤولين اللبنانيين حين جاء في 2005 للتعزية بالرئيس رفيق الحريري لتكرّر المشهد. ماكرون الذي أرجأ زيارته إلى بيروت منذ فترة طويلة، أعلن بما لا يقبل الشكّ، أنّ الأزمة اللبنانية دخلت منعطفًا دوليًا جديدًا. عنوانه لن نترك لبنان يذوب في صراع اقليمي ليسقط في الفلك الايراني. وموقفه هذا مدعوم عربيًا ودوليًا. ونحسب إنّه يحظى بتأييد غالبية ساحقة من الشعب اللبناني. لم يتوجّه الزائر الفرنسي بكلمة إلى المسؤولين قبل اللقاء بهم في بعبدا. بل إلى الشعب اللبناني. المساعدات ستوزع من خلال وكالات الأمم المتحدة والمجتمع المدني قال. إشارة إلى يأسه من إرادة النظام للإصلاح.

كان الضيف يعلم أنّ منطقة الجمّيزة التي زارها على وقع السخط الشعبي المحموم، مقفلة في وجه رجال السلطة ورموزها. وأنّ الكثيرين منهم طُردوا من مطاعمها وحاناتها، مثلما طُردوا من مناطق أخرى من العاصمة التي أعلنها الحكم مدينة منكوبة بعد الانفجار الهائل والمريب الذي أتى على المرفأ. وأخذ في طريقه البشر والحجر وامتدّ إلى قلب العاصمة والجوار.

الشعب يصنع التغيير قال ماكرون. واستعاد في مؤتمره الصحافي خطاب الثورة وكلام الناس. وقال كلامًا سياسيًا كبيرًا وكأنه يرسم خريطة طريق جديدة يقوم بها اللبنانيون وتدعمها فرنسا سياسيًا واقتصاديًا وماليًا. ميثاق جديد. مؤتمر دولي لاعادة الاعمار. ودور للأمم المتحدة والمصرف الدولي. التأكيد على مفاوضات صندوق النقد الدولي. وكان لافتًا تطرقه تكرارًا إلى اصلاح مصرف لبنان. حزمة المبادرات التي طرحها الرئيس الفرنسي تستدعي حكمًا وحكومة قوية موثوقة تحث الخطى لحسم المفاوضات مع صندوق النقد بموقف موحّد حدًا أدنى. وتحتاج حزمة الدعم المالي الدولي التي تحدث عنها حكمًا مؤهلًا لملاقاتها في منتصف الطريق. خصوصًا وأن المساعدات الانسانية لتبعات انفجار المرفأ ملاصقة لتمويل إعادة إعماره والبنى التحتية التي اختربت جرّاء الانفجار. وهذه جزءٌ من تعهدات مؤتمر سيدر التي أكّد عليها ماكرون. هناك ورشة لبنانية كبيرة لتواكب الدعم الدولي والعربي الذي استدعته تداعيات انفجار المرفأ.

التحقيق الدولي بالانفجار بات ضرورة بعد الضحايا والمصابين الفرنسيين وأحد الألمان. مرّة أخرى القضاء محجور عليه في بعبدا. ومرسوم التشكيلات القضائية لم يصدر. القرار الأول بعد الكارثة كان مخالفًا للدستور. الإقامة الجبرية ومنع السفر قرار قضائي وليس شغلة مجلس الوزراء. ثم من هم المستهدفون بالقرار؟ اللحظة تستدعي وقف التنابذ السياسي. لكن تستدعي الحقيقة أولًا وأخيرًا. أما آن للمهازل أن تتوقف؟

يحصل في لبنان
باخرة من جورجيا متوجهة إلى موزمبيق في 2013. ترفع العلم المولدوفي وبحّارتها أوكرانيون. لا علاقة للبنان واللبنانيين بها من قريب أو من بعيد. عانت مشكلات فجرى تعويمها في مرفأ بيروت. سحبت منها أطنان نيترات الأمونيوم إلى قلب المرفأ "حرصًا على السلامة". حُجزت بقرار قضائي. صاحب البضاعة تخلّى عنها. وصاحب الباخرة عن باخرته. البحّارة عادوا إلى أوكرانيا. ماذا بعد؟ إنفجار العنبر 12. هكذا الرواية الرسمية ببساطة! مئات الضحايا والمفقودين من اللبنانيين والمقيمين. وألوف الجرحى وعشرات المفقودين. وبيروت مدينة منكوبة.. ومئات الآلاف بلا مأوى. مستشفيات خرجت من الخدمة. شركات ومؤسسات وبضائع وخزين من كل الأصناف والأنواع مستورد بدولار المواطن الأخير. اختفى المرفأ. أكبر مرفق حيوي للاقتصاد الكلّي في لبنان. التجارة وكفاية لبنان من الغذاء والسلع وسلاسل التوريد. بوابة الصادرات. المال ومصدر أول لإيرادات الخزانة من الرسوم. مخازن التجارة ومستودعات التجارة وإعادة التصدير. أمن لبنان الساحلي. أمن العاصمة وبوابتها على العالم. حارس الساحل اللبناني. صومعة القمح والحبوب والغذاء. مرصد السفن العابرة المياه الإقليمية. كل ذلك وليس على وجه الحصر.

ونكتشف مرّة أولى من وزير الأشغال والنقل على قناة متلفزة أن الوزارة "سلطة إشراف" على المرفأ! والشائع خطأً سنوات مضت، أنّ المرفأ خاضع لوصاية وزارات ثلاث. الأشغال العامة والنقل، والمال والطاقة والمياه، التي حلّت مكان وزارة الموارد المائية والكهربائية بعد إلغاء الأخيرة.

"لا يدوم إلًا الموقّت"!
فُجّر قلب بيروت. عدا الخسائر في الأرواح، والاصابات، لحق الدمار بعشرات آلاف المنازل والمكاتب ومساحات شاسعة. قبل نبأ التوقيفات منتصف ليل أمس، لم يستقل واحد من مسؤولي المرفأ ليضع نفسه في تصرف التحقيق.. ولم يُعطَ واحد إجازة إدارية في انتظار التحقيق. أصلًا المسؤولية عن المرفأ بالذات قيد الدرس.. هل يصدَّق أن هذا المرفق الستراتيجي بكل المعاني ليس مصنفًا بعد إدارة عامة وتديره لجنة موقّتة تحولت دائمة؟

هناك فرقة زبائنية سياسية تدير مرفأ بيروت. ألم يحصل الأمر في الكهرباء والمياه والسدود والنفايات والمحروقات. المدير العام لمنشآت النفط متوار عن الأنظار. محميٌ هو الآخر. كما يحمي كل الآخرين زبائنهم في الادارة.

في 1960 استردت الحكومة امتياز المرفأ الحصري من شركة فرنسية وتحوّل إلى شركة إدارة واستثمار مرفأ بيروت بهوّية تائهة شبه رسمية. إنّما ليست مؤسسة عامة أو مصلحة مستقلّة. ومنذ انتهاء الامتياز مطلع تسعينات القرن الماضي، والمرفأ بإدارة لجنة موقتة بقرارات من مجلس الوزراء. ريثما ينفذ قرار للمجلس في 1997 لوضع الأطر القانونية للمرفأ ليصبح مؤسسة عامة. وكلّف مجلس الوزراء في حينه وزير الأشغال العامة والنقل "الإشراف" على المرفأ. غياب الاطار المؤسسي عن المرفأ والشركة الموقتة ترك قطاعًا بهذا الحجم والأهمية خارج الرقابة المالية، وديوان المحاسبة، والتفتيش المركزي وإدارة المناقصات العامة.. كل المشتريات من خارج إدارة المناقصات بطريقة المناقصة المحصورة او باستدراج العروض او التراضي. وخلافًا للرسوم الجمركية الأساسية، تفرض شركة إدارة واستثمار مرفأ بيروت ما تسمّيه رسومًا مرفئية من دون سند قانوني. وتحوّل 25 في المئة فقط منها إلى الخزانة. منذ 2007 حتى 2019 حوّلت شركة المرفأ نحو مليار دولار أميركي ( بالليرة اللبنانية ) بينما تحقق دخلًا مئات الملايين من الدولارات. هكذا يدار أهم مرفق تجاري واقتصادي في لبنان بلا هوّية ولا مسؤوليات مؤسسية حكومية. أمّا أن يصل الأمر إلى تجهيل المسؤولية عن الانفجار فيحتاج إلى أكثر من تحقيق دولي.

بقي أن نعلم منذ الآن، أنّ طريق الواردات البحرية والصادرات ضاقت على لبنان. النظام السوري الذي استطاب الإثم الجغرافي ولعنة جغرافيا الجوار، سيجد في دمار مرفأ بيروت والعاصمة، فرصة جديدة لابتزاز الصادرات اللبنانية العابرة. مرفأ طرابلس جاهز للواردات والصادرات ومؤهل تقنيًا. وعمق الغاطس فيه يزيد عمّا هو في مررفأ بيروت وفي وسعه استقبال بواخر كبيرة. الحكومة مدعوّة إلى تأمين مرفأ طرابلس بكل النواقص التي يحتاجها للتخفيف من أثر غياب تدمير مرفأ بيروت.

سيعود ماكرون في مئوية لبنان الكبير في أيلول. لو أتى العالم كله لن يحصل اصلاح في لبنان على يد الفاسدين ولو على جثة الوطن. منكوبة بكم بيروت ولبنان.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024