المسؤول عن تلف طحين المساعدات: الوزير ليس وحيداً

خضر حسان

الخميس 2020/11/05
يُعتَبَر تفجير 2750 طن من مادة الأمونيوم في مرفأ بيروت، الحدود النهائية لما يمكن أن يصل إليه فجور المنظومة السياسية.. هذا ما توقَّعناه. لكن المنظومة أبَت إلاّ أن تَمُدَّنا بالمزيد من أصناف الوقاحة المتمثّلة بقتل الضحية والسير في جنازتها. 

تهافَتَت المساعدات بعد تفجير المرفأ، وكان من ضمنها أطنان الطحين الآتية من تركيا والعراق، علّها تسدّ الفجوة التي أحدثها تدمير إهراءات القمح في المرفأ، وتضرّر الطحين المخزَّن فيها. فأكَّدَ وزير الاقتصاد راوول نعمة أن لا أزمة خبز ستواجه اللبنانيين، لأنَّ كميات الطحين الموجودة لدى المطاحن والأفران، وبالتوازي مع المساعدات، كافية لتلبية حاجة السوق.

بين المطاحن والأفران
ما إن أُعلِنَ عن مساعدات الطحين، حتى اعترضت المطاحن، مُفَضِّلةً أن تطلب الدولة اللبنانية من الدول الراغبة بالمساعدة، إرسال القمح عوضاً عن الطحين، ذلك أن المطاحن اللبنانية لديها ما يكفي من الطحين. قَبِلَت الدولة المساعدات. لكنّ القبول لم يخلُ من بصمة الفساد اللبنانية، حين طلب وزير الاقتصاد أن يتكفَّلَ العراق بتفريغ الحمولة في مرفأ بيروت على نفقته.

ألفان وسبعمئة طن من الطحين العراقي دخلت الى لبنان، إلى جانب كميات من الطحين التركي. الكميات التركية بدأ توزيعها على المطاحن قبل العراقية، وبَشَّرَ نعمة على إثرها بأن المساعدات ستساهم بخفض سعر ربطة الخبز أو زيادة وزنها. وبقدرة الأفران، وَقَع الاختيار على زيادة وزن الربطة من 900 غرام إلى 1000 غرام، وليس خفض سعرها من 2000 ليرة إلى 1500 ليرة. وافَقَ وزير الاقتصاد على هذا العرض، وطُوِيَت الصفحة. هذا، من دون أن يلحَظَ المواطن أي فارقٍ فعلي مع زيادة وزن الربطة، على عكس ما كان سيشعر به فيما لو وَفَّرَ 500 ليرة في كل ربطة.

غاب الملفّ قليلاً عن الأنظار، حتى سجَّلَت "المدن" تفريغ كمّيات من الطحين العراقي، في مستودعات أحد الأفران. حينها، بَرَّرَ نقيب أصحاب الأفران، علي إبراهيم، هذا الفعل، بأن "الأفران تساعد الدولة اللبنانية على تخزين الطحين، كي لا تتكبَّدَ الدولة كلفة التخزين. فيما الأفران لا تستفيد من هذا الطحين إلاّ بحسب الكوتا التي تحددها وزارة الاقتصاد، استناداً إلى أرقام المبيعات المسجّلة لكل فرن، منذ 5 أشهر".

وأوضَحَ ابراهيم أن ما يتم استعماله هو الطحين التركي، فيما العراقي سينتظر نفاد الكميات التركية، ليبدأ توزيعه على الأفران. علماً أن الأفران "تستعمل طحين المساعدات التركية بنسبة 42 بالمئة، والباقي من المطاحن اللبنانية".

إهمال الوزارة
فَضَّلَت الوزارة مصلحة المطاحن والأفران على مصلحة المواطنين، علماً أن وزن ربطة الخبز وسعرها مجحفان بحق المستهلكين، الذين فقدوا القدرة الشرائية لرواتبهم. فرأى الوزير أن تخزين الطحين العراقي وانتظار نفاذ الكميات التركية، وتلك التي تملكها المطاحن مسبقاً، أفضل من توزيع الطحين على المواطنين كمساعدات مباشرة. ولربما في قرار الوزير حكمة لا ندركها.

مع ذلك، رمى الوزير بآلاف الأطنان تحت مدرّجات المدينة الرياضية، لتبقى عرضة للرطوبة والماء والقوارض والحشرات.. ثم ليتباكى بعد انكشاف الفضيحة، ويبدأ بِرَصف التبريرات غير المقنعة، في محاولة لإنقاذ نفسه.
لكن حقيقة قرار الوزير يُعرَف من موقف الأفران والمطاحن وقبوله بشروطها غير المُعلَنة، والهادفة إلى عدم توزيع الطحين، منعاً لانخفاض أسعار الخبز.

بلدية الغبيري والجيش
الوزير ليس وحده في هذه الأزمة، وكذلك المطاحن والأفران. فبلدية الغبيري والجيش اللبناني مسؤولان أيضاً، كُلٌّ من موقعه. 

المدينة الرياضية خاضعة بحكم الموقع الجغرافي لسلطة بلدية الغبيري، التي يؤكّد رئيسها معن الخليل في حديث لـ"المدن"، أنّ البلدية "تعلم بتخزين الطحين في المدينة الرياضية، لكن القرار كان لوزارة الاقتصاد وليس للبلدية". يبرر الخليل عدم تحرّك البلدية بأن "الوزارة هي التي استلمت المساعدات وليس البلدية". وبالنسبة إليه، "كل ما عرفناه هو أن الوزارة ستخزّن الطحين لبضعة أيام".

من جهة أخرى، يعترض الخليل على عدم إعطاء وزير الاقتصاد الإذن لفريق الرقابة الصحية التابع للبلدية، للدخول والكشف على كميات الطحين التالف. وقَد صوَّرَ الفريق مقطعاً من الفيديو يُعبّر فيه عن انزعاجه من قرار الوزير.

لكن لم يلتفت الخليل وفريقه الصحّي الى أن الشهامة والمروءة التي احتَدَّت بعد افتضاح جريمة إتلاف الطحين، لا تُسمِن ولا تُغني من جوع. إذ كانت مطلوبة منذ لحظة الإطّلاع على قرار الوزير بالتخزين في ذلك الموقع غير المؤهّل للتخزين.

نعم لم تستلم البلدية المساعدات، لكن موقع تخزينها خاضع لسلطتها، وقد عَلِمَت بالتخزين. وعليه، أضعف الإيمان أن تلقي نظرة على الطحين، وأن تلفت نظر الوزير إلى عدم جدوى التخزين في هذه البقعة. وتالياً الأجدى بالبلدية رفع الصوت إعلامياً بعد بضعة أيام من التخزين. إذ أنّ للمسألة بُعداً أخلاقياً أهم من الصلاحيات القانونية. وهذا يشبه تماماً ما حصل في مرفأ بيروت حيث عَلِمَت جهات كثيرة بتخزين الأمونيوم من دون رفع الصوت، بحجة المسؤوليات القانونية.

وِمن هنا، يصبح من الضروري التساؤل أيضاً عن دور قيادة الجيش التي تبسط سيطرتها على المدينة الرياضية، وكانت على علم بالتخزين، بل جرى ذلك تحت إشرافها. أفلا يعلم الجيش عدم صلاحية المنشأة الرياضية لتخزين القمح؟

سقوط أخلاقي
سعر كيس الطحين زنة 50 كيلوغراماً، نحو 50 ألف ليرة. أي أن سعر طن الطحين لا يقلّ عن مليون ليرة. وبذلك، سعر 2700 طن من الطحين العراقي التالف، لا يقلّ في السوق اللبنانية عن 2 مليار و700 مليون ليرة، كان بإمكان اللبنانيين الاستفادة منها، لولا السقوط الأخلاقي لمنظومة السلطة التي تبسط أذرعها داخل مؤسسات الدولة، فتُعيِّن مَن أثبَتَ تماهيه مع الفساد، مسؤولاً، فيخرج شاهراً سيف السلطة ضد الناس.

المجتمع الدولي أصبح متيقّناً من اللعبة، لذلك قرَّرَ عدم تقديم المساعدات عقب تفجير المرفأ، عبر الدولة اللبنانية، مفضّلاً توزيعها عبر جمعيات مدنية موثوقة. إلاَّ أنّ الحظّ العراقي العاثر، تكامل مع حظ اللبنانيين، فجرى تقديم المساعدات للدولة.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024