صراع الديوك في مجلس الوزراء

عصام الجردي

الإثنين 2019/05/20

لنا أن نفهم من المخاض الذي يمر به مشروع موازنة 2019، مشهداً سيكرر نفسه في كل المشاريع والقوانين والقرارات الكبيرة، في حقبة من شهور أو سنوات، تطول أو تقصر تبعاً للتطورات السياسية في لبنان والمنطقة. يتظهّر المشهد بحدة أكثر، كلما اقترب من الشأنين المالي والاقتصادي، واستمرت العجوز المثلثة في الموازنة والميزان التجاري وميزان المدفوعات. في اختصار، الفوضى العارمة المصاحبة مناقشات مشروع الموازنة في مجلس الوزراء، إنما تعبير عن إفلاس نظام سياسي برمته بات هو الخطر المباشر على الشعب والوطن.

تقطيع وتوصيل
أبسط قواعد إعداد مشاريع الموازنات، أن يُخطر وزير المال وزراء الحكومة قبل فترة بضرورة إيداعه تقديرات لنفقات وزارتهم وإيراداتها في السنة المالية. ينسحب ذلك على مؤسسات وهيئات أخرى تابعة للدولة. بعد خمس عشرة جلسة لمجلس الوزراء، ما زال الخلاف قائماً على اعتمادات وزارتي الدفاع والداخلية. ولم تحسم بعد نهائياً قضيتان أساسيتان في الموازنة. مواقع خفض النفقات، ومصادر الإيرادات من الضرائب والرسوم. ليكتمل المشهد، فكل ما أُعلن حتى الآن هو رغبة بخفض عجز الموازنة إلى ما دون 9 في المئة من الناتج المحلي. فبدأ التقطيع من هنا، والتوصيل من هناك، في عملية حسابية دفترية، لا علاقة لها بوظيفة الموازنة الاقتصادية، ولا بالعدالة الاجتماعية لتوزيع الأعباء، وبعيدة عن أي ملمح إصلاحي. نحن أمام معادلة جلية. النظام السياسي (تجزئة وجملة) لا يرسل إشارة يفهم منها استعداده لتقديم تنازلات لمصلحة البلد والشعب. الجزر الوظيفية تتمدد في القطاع العام، والصراع باق على أشده. قرروا شطف الدرج من تحت. المال المنهوب قد نُهب. ومَن في جيبه مال حلال ليخرجه. الفجوات المالية الكبيرة والمؤسسات الاستثمارية التابعة للدولة (وزارة المال) ومصرف لبنان ممنوع الإقتراب منها. إنترا وشركاتها التابعة، كازينو لبنان، مصرف التمويل، الريجي وغيرها. وكلها مؤسسات يستقطعها زعماء النظام السياسي. وتشكل مصادر إيرادات لا يستهان بها لو رُفعت الأيدي عنها.

الاستيراد والتهريب
وزير الاقتصاد والتجارة منصور بطيش، الذي يحاول استعادة دور للوزارة مفقود منذ عقود، تقدم باقتراح فرض 3 في المئة رسماً جمركياً على سلع مستوردة، بهدف الحدّ من عجز الميزان التجاري الذي فقد تغطيته من التدفقات النقدية الخارجية، وبات عبئاً على ميزان المدفوعات. ويتوخى الوزير أيضاً توفير دعم للصناعة اللبنانية والإنتاج الوطني. بصرف النظر عن الحساسية التي سيتركها الاقتراح داخل مجلس الوزراء، مع غلبة واضحة للتيار التجاري، فالحاجة ضرورية لتوضيح هدف الاقتراح. هل هو لخفض فاتورة الإستيراد، أم لدعم الانتاج اللبناني والصناعة اللبنانية؟ أم للهدفين معاً؟ ذلك أن الاقتراح يحمل على الاعتقاد بأنه يؤدي تلقاءً وبالضرورة إلى دعم المنتج الوطني والصناعة اللبنانية. بينما يحتاج الأمر في السيناريوين إلى تدابير ليست متلازمة دائماً بالضرورة. لبنان قادر على فرض رسوم حمائية في الواقع على المستوردات. لاسيما على السلع التي يماثلها من الصناعة اللبنانية. لكن مهلاً، فالإجراءات ذوات النوايا الحميدة تتحول عبئاً هي الأخرى في بلدان الأنظمة الزبائنية.

أولاً: الدولة التي لا قدرة لها على ضبط حدودها تتحول الرسوم الجمركية على الإستيراد أداة لتشجيع التهريب وتتراجع إيرادات الخزانة. الحدود اللبنانية السورية يجب أن ترسّم لمصلحة لبنان وسوريا. ومنافذ التهريب يجب أن تقفل. مافيا التهريب تعمل بحرية في سوريا وعبر مرافئها برعاية "أجهزة الممانعة" وروسيا. ويلاقيها في لبنان ما يماثلها من غطاء سياسي يتلون بلون المنفذ.

ثانياً: لا جدال في أهمية دعم الإنتاج اللبناني. في الزراعة المشكلة الأسوأ هي التهريب من سوريا. دواؤها ليس بالرسم. لكن الأمر يختلف في الصناعة. فالدعم لا يجوز بالمطلق. الصناعة الجديرة بالدعم هي تلك المولدة قيمة مضافة وفرص عمل للبنانيين، مشمولين بحقوقهم الطبيعية من الأجر العادل والإنتساب إلى الصندوق الوطني للضمان الإجتماعي. ومصرح عنهم بأجورهم الحقيقية ومسددة اشتراكاتهم بانتظام. عار على هذه الحكومة تجاهل بطالة اللبنانيين في وطنهم.

ثالثاً: كل صناعة أو زراعة أو أي منشأة لبنانية تتلقى دعماً سواء من الرسوم الجمركية أم من غيرها، يجب التزامها شروط البيئة وقواعد السلامة والصحة العامة. ولا نعجب أن تطلب كسارة فتوش الدعم من الخزانة كي تجتاح جبال عين دارة!

رابعاً: دعم الإنتاج الوطني يفرض دوراً على السلطة، لرقابة الجودة والسعر، وتوفير المنتج على الدوام. فلا يفترض أن يفهم المُنتج الرسم الجمركي حصانة له من المنافسة الخارجية. إنما حافز لتحسين النوع والتسعير العادل. وفي كل الأحوال، فالموسرون لن ترتعد فرائصهم من دفع ثمن السلع المستوردة المثقلة بتكلفة الرسوم الجمركية. ومحدودو الدخل والفقراء لن يشكل لهم الرسم الجمركي حافزاً للإستهلاك يعتد به.

السياسات الاقتصادية الكلية
دراسة حديثة لصندوق النقد الدولي عن التعريفات الجمركية خلصت إلى توصييات أهمها "وجوب ارتكاز المناقشات في شأن الموازين التجارية على العوامل الاقتصادية الكلية التي عادة ما تحدد حجم الموازين التجارية الكلية". وتنصح الدراسة التي شملت أربعاً وستين دولة، واستمر الإعداد لها 20 عاماً ونُشرت في نيسان 2019، بأن "يجتنب صانعو السياسات وضع سياسات اقتصادية كلية تشويهية، مثل سياسات المالية العامة المسايرة للاتجاهات الدورية، أو تقديم الدعم المالي الضخم للقطاعات التصديرية، على نحو يؤدي إلى اختلالات مفرطة قد لا يمكن الاستمرار في تحملها. وما لم تتغير السياسات الاقتصادية الكلية، فإن استهداف موازين تجارية ثنائية بعينها لن يؤدي على الأرجح سوى إلى تحول مسار التجارة وموازنة التغيرات في الموازين التجارية مع الشركاء الآخرين، ولن يكون له بالتالي سوى تأثير طفيف على الميزان الإجمالي للبلد".

توصلت الدراسة إلى أن معظم التغيرات في الموازين التجارية الثنائية خلال العقدين الماضيين "كانت نتيجة الأثر المجمّع للعوامل الاقتصادية الكلية التي تشمل سياسة المالية العامة، والدورات الائتمانية، وفي بعض الحالات سياسات سعر الصرف، واتساع نطاق الدعم المقدم للقطاعات التجارية. وفي المقابل كان أثر التغيرات في التعريفات الجمركية أقل من ذلك بكثير".

نعم، السياسات الاقتصادية الكلية هي ما يجب التركيز عليه. وتشمل الموازنة، والنمو، وسعر الصرف، وسوق العمل والبنى التحتية. وكل ما له علاقة بعمق الأزمة وتشعباتها. هذا كان قبل سيدر وماكنزي، وسيبقى بعدهما نقطة انطلاق لأي دولة من أزماتها. أما أن يتحول مجلس الوزراء وفيه الصناعي، والتاجر، والمصرفي، والقوميسيونجي.. إلى صراع الديوك على رواتب الموظفين وحقوق الأجور المكتسبة ورواتب القضاة والعسكريين لخفض عجز الموازنة، فلن ندعكم تنتصرون.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024