بعد الموازنة: لتدفع "نخبة" السياسة والمصارف الثمن

نزار غانم

الخميس 2019/06/06

أقرت الحكومة يوم 27 أيار الماضي الموازنة الحكومية الجديدة لسنة 2019، متضمنة زيادة الضرائب والرسوم على المواطنين، بالإضافة إلى اقتطاع مكتسبات المتقاعدين والموظفين، بغية تخفيض عجز الموازنة من 11 في المئة في السنة الماضية، إلى 7.6 في المئة لهذه السنة.

وبينما تستمر القوى السياسية الحاكمة في الاعلاء من خطر الانهيار الاقتصادي في حال عدم تنفيذ هذه السياسات، هناك عدة أسئلة لم يتم الإجابة عليها بعد: كيف وصلنا إلى هنا؟ من يتحمل الأعباء الاقتصادية الأكبر لهذه السياسات؟ وهل هناك حلول أخرى؟  

من سيء إلى أسوأ
قامت حكومات ما بعد الطائف، بتمويل إعادة الإعمار بواسطة الاقتراض الكثيف من مصارف معظمها محلية، بفوائد مرتفعة على الدين، وذلك لتثبيت سعر صرف الليرة. أدى ارتفاع رصيد الدين، إذا ما قورن بسرعة النمو الاقتصادي إلى زيادة مخاطر الاقتراض. هذا أدى بدوره إلى تفاقم سعر الدين وإعاقة النمو الاقتصادي، عبر التأسيس لأزمة الدين العام. وقد فاضلت هذه السياسة الأغنياء، حين استفاد أصحاب الرساميل من عوائد ضخمة على سندات الخزينة، بالإضافة إلى ضرائب دخل متدنية. فالضرائب في لبنان قليلة مقارنة بنظرائه. والضرائب الموجودة والتي يتم تحصيلها، تطال بشكل غير متناسب الفقراء، كضرائب القيمة المضافة مثلاً.

وعلاوة على هذا كله، معظم أصحاب المصارف الذين أقرضوا الدولة، هم مقربون من النخب السياسية الحاكمة. ويثبت الدكتور جاد شعبان في دراسة له أن كبار المساهمين في 18 مصرفاً من أصل 20 مرتبطون مباشرة بالنخب السياسية. كما أن ثمانية أسر تسيطر على حوالى ثلاثين في المئة من إجمالي أصول القطاع المصرفي. بكل بساطة، سلف السياسيون الدولة لتبدأ إعادة الاعمار، ومن ثم قاموا هم أنفسهم بإدارة الإنفاق العام!

هذا وعانى الإنفاق العام من سوء إدارة، شكلت مدخلاً للأزمة التي نعاني منها اليوم.  فالإنفاق العام فشل في تجهيز لبنان ببنية تحتية لاقتصاد منتج، يمكن استخدامه بتوسيع القاعدة الضريبية وتأمين مداخيل للخزينة.

بل وتميز الإنفاق الحكومي على مشاريع البنية التحتية، منذ التسعينات حتى اليوم، بعدم الكفاءة والفساد. فعلى سبيل المثال، وعلى حد قول وزارة الاقتصاد، يحتل لبنان المركز 121 من أصل 137 لنوعية الطرق عالمياً، والمرتبة المئة من ناحية نوعية الملاحة الجوية، كما يتربع في المرتبة 134 لناحية جودة الكهرباء (من أسوأ ثلاث بلدان عالمياً). كما شهد البلد تدهوراً واضحاً في آخر عشر سنوات أفقدته 46 مرتبة لناحية سهولة القيام بالأعمال، خصوصاً إذا قارناه ببلدان كجورجيا أو أرمينيا. بالإضافة إلى ذلك، وبناءا للبنك الدولي يحتل لبنان المرتبة ١٨٠ من أصل ٢٠٩ لناحية مدى الفساد واستيلاء النخب والمصالح الخاصة على الدولة.

الإفلاس والإفقار
كل ما ذكرناه آنفاً، وضع مالية الدولة في مأزق محرج، فمنذ 2008 وحتى 2016، استهلك تسديد قيمة الفوائد على الدين العام حوالى ثلث الموازنة، بينما ذهب ثلث آخر كتكاليف لدفع رواتب الموظفين في القطاع العام، كما استهلكت التحويلات لشركة الكهرباء حوالى 20 في المئة من الموازنة العامة. هذه المستحقات أدت إلى تقلص كبير في حصة النفقات الرأسمالية من إجمالي الناتج المحلي إلى 2 في المئة مقارنة بـ 6 في المئة في دول شبيهة بلبنان. والنفقات الرأسمالية هي استثمارات ذات مردود مستقبلي ومحرك فعلي للنمو الاقتصادي، كالاستثمار في الطرق والجسور والمعامل والخ.

الحاجة إلى سيدر هي بالمبدأ لتمويل الإنفاق الحكومي على حوالى 280 مشروع بنية تحتية ومشاريع لخدمة اللاجئين السوريين. ولكن لكي تحصل الحكومة على الأحد عشر ملياراً من سيدر، عليها إثبات جديتها بالسيطرة على الدين العام، وهو بين أعلى ثلاث دول في العالم مقارنة بالناتج الإجمالي المحلي (152 في المئة).

بكل بساطة الدولة مفلسة وعلى أحدهم دفع الثمن وتمويل العجز. فمن سيكون؟

لم تقم الموازنة الجديدة بإقرار سياسات تساهم بردم الهوة في المساواة الاجتماعية بين الأكثر فقرا والأغنياء في لبنان. بل على العكس، امتدت يد السياسيين إلى جيوب الناس. لماذا على الموظفين والمستهلكين تحمل عبء أزمة مالية الدولة، وهم بجميع فئاتهم يعانون اجتماعياً من نتائج السياسات الاقتصادية الكارثية؟ فحوالى مليون ونصف لبناني ما زالوا يعيشون تحت خط الفقر أي بما مقداره 120 دولاراً أميركياً في الشهر.

كلفة الطائفية العالية
باعتراف البنك الدولي في تقرير له صادر عام  2015، فان فشل لبنان في تحقيق نمو اقتصادي وتأمين وظائف كافية، بعد الحرب الأهلية، مرده إلى "الحكم الطائفي، أي تولي الحكم من قبل طبقة نافذة تستخدم ذريعة الطائفية قناعا لها". وقد قام التقرير بتثمين كلفة الحكم الطائفي على الاقتصاد اللبناني بـ 9 في المئة من الناتج المحلي سنوياً. فسيطرة ذوي النفوذ على الاقتصاد، على حد البنك الدولي، يعيق تنفيذ سياسات تقنية متوسطة الأمد، مثل تحسين الحوكمة وفعالية المؤسسات العامة، ومعالجة فجوات الطاقة (الكهرباء) لزيادة إنتاجية القطاع الخاص..إلخ من السياسات والإصلاحات التي تعهدت بها الحكومة اللبنانية في مؤتمر باريس 1، و2 و3 والآن سيدر.  

فحتى الآن، يتم تنفيذ معظم مشاريع البنية التحتية عبر صندوق مجلس الإنماء والإعمار، الأداة التنفيذية للحكومة، وهو لا يخضع للرقابة النيابية أو للتفتيش المركزي. فالمجلس مؤلف من 12 عضواً، يمثلون معظم القوى السياسية. يرأس المجلس السيد نبيل الجسر، حصة الرئيس الحريري، ومنصب نائب الرئيس للسيد ياسر بري، شقيق رئيس مجلس النواب نبيه بري، بينما يحاول التيار الوطني الحر، حالياً أخذ حصته، أو كما يسميها"الحصة المسيحية".  

بالرغم من مناورات أحزاب السلطة الحاكمة، برؤوسها المتعددة التي جاءت لتقنعنا بصدقية نواياها، فالجميع يعرف أن تحاصص الـ11 ملياراً (مقررات سيدر) قد بدأ بالفعل تحت عنوان "الانماء المتوازن". وأن هذه الأموال ما هي غير جرعة مورفين للنظام المعطوب، لأنها ستزيد من عبء الدين العام غير المستدام على المدى البعيد. "من جرّب المجرب كان عقله مخرب"، كما يقولون.

الحل في المواجهة
إن السياسات التقشفية التي بدأتها الحكومة تحت عنوان "سيدر"، ستضرب كما أسلفنا الفئات الأكثر تهميشا في المجتمع وستساهم مؤكدا بزيادة نسبة الفقر في لبنان. كما أنها ستبقي على آليات السيطرة والنفوذ للقوى السياسية التقليدية. أي أنها لن تمس بالمصارف، أو الأملاك البحرية أو بالضرائب المباشرة على أصحاب الرساميل. ولكن هذه السياسات نفسها، ستحاول عصر الموظفين والمستهلكين لما تبقى لديهم من مال، لتمويل دورة الفساد المتراكم. وهذا كله من دون أفق لحلول مستدامة.

لكي نخرج من الوضع الاقتصادي الصعب، على الشرائح التي استفادت من تكلفة الدين العام، ومن مصادر الريع، أن تدفع ولو جزءاً يسيراً مما ربحته في السنوات الماضية. وبالفعل هناك دعوات للمصارف الـ14 الأكبر في لبنان، أو ما يسمي بمصارف "ألفا"، والتي شهدت 7 في المئة زيادة في الأرباح الصافية منذ 2011، أن تقوم بقسطها عبر قبول صفر فوائد على سندات الخزينة، لمدة سنتين منذ الآن. بالإضافة إلى ذلك، يجب رفع الضرائب على فوائد الرساميل التي تفوق مليون دولار من 7 في المئة إلى 11 في المئة. هذا بالإضافة إلى تعزيز الجباية على ضريبة الدخل للشركات وعلى الأملاك البحرية.

بالرغم من الاعتراضات الشعبية التي استمرت في لبنان منذ 2015، ومن انتصارات طفيفة للمستقلين، فان النقابات العمالية في لبنان ما زالت مشرذمة ومسيطر عليها من قبل الأحزاب السياسية الحاكمة. كما أن مجموعات الحراك الشعبي والمدني ما زالت، على ما يبدو، غير قادرة على تنظيم نفسها على نحو تضمن فيه نقل الاعتراض على السياسات الحكومية إلى الضغط الميداني كالإضراب والتظاهر، هذا بالرغم من تظاهرات عديدة قام بها الأساتذة والمتقاعدين.

بالمحصلة لا بديل عن إعادة السياسة إلى حقيقتها البسيطة، وهي كما في الشأن الخاص، كذلك في العام، من يأكل الكعكة، عليه أن يدفع الثمن.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024