ثورة اقتصادية: زراعات تعاونية للتحرر من النقود.. وللتغيير السياسي

يارا نحلة

الخميس 2020/03/12

مع أزمة العملة النقدية، أفاق اللبنانيون على مآزم نظام اقتصادي طبّعوا معه منذ وقت طويل، طوعاً أحياناً مقتنعين بمشروع الاقتصاد النيوليبرالي الحر، وقسراً في أحيان أخرى، مع اتجاه الدولة إلى بناء اقتصاد ريعي على أنقاض القطاعات الإنتاجية.

زراعة ومقايضة
انهيار هذه المنظومة الاقتصادية ينعكس اليوم قلقاً من فقدان أبسط الحاجات الإنسانية: الأمن الغذائي، والكرامة الإنسانية. ومع انطلاق ثورة 17 تشرين وطرحها فرصاً جدية للتغيير، شرع شبان إلى بناء مشروع اقتصاد بديل يستنهض القطاعات الانتاجية الخاملة منذ حين، ويستبدل النموذج الرأسمالي الرأسي القائم على الربح، بآخر أفقي يقوم على إنصاف قوة العمل.

وبما أن الحديث عن اقتصاد بديل لا بدّ من بدئه بقضية إحياء القطاع الزراعي المهمّش، عقدت مجموعة العمل الاقتصادي الاجتماعي، "سياق"، مؤتمراً حول "سياق العمل الزراعي في لبنان في ظلّ الأزمات الاقتصادية والبيئية"، وذلك في السابع من آذار، في مكتبة برزخ. وقد جاء المؤتمر استجابةً للحاجة إلى "التعاون والتشبيك بين المبادرات الزراعية المستدامة والاجتماعية والبيئية"، التي لا تزال جهوداً متناثرة في البلاد لا بدّ من تظافرها لمجابهة المنظومة الاحتكارية.

تخلل المؤتمرعرضاً للمبادرات المحلية، الفتية بمعظمها، وتشاركت التجارب والخبرات في مجال التعاونيات الزراعية والزراعات البيئية وإنتاج الطاقة الخضراء. وتغطي هذه المبادرات مناطق لبنانية مختلفة، واهتمامات زراعية متنوعة لكنها تتفق جميعاً على ضرورة إنتاج "سلعتنا للتحرر من قيود العملة النقدية".

لذا ارتأت مجموعة ناشطين من بشري إطلاق مبادرة "سوق المقايضة" الذي يهدف إلى استبدال العملة النقدية بالتبادلات المباشرة للسلع والخدمات. وإلى جانب مساهمته في بناء حركة اقتصادية بديلة، يحتوي هذا النموذج الاقتصادي على بعد نفسي وآخر بيئي، وفق مؤسسي المبادرة:  "يعزّز الانتماء الاجتماعي والإحساس بالعدالة من جهة، ويساهم في خفض الاستهلاك بواسطة تبادل السلع وإعادة تدويرها، من جهة أخرى".

زراعة تعاونية
أما مبادرة "ازرع" التي تضم مجموعة من المهندسين المختصين في مجال الزراعة، فتهتم بتقديم المساعدة المباشرة لأشخاص راغبين بتحقيق المزيد من الاستقلالية الغذائية، إضافة إلى نشر معرفة حول أفضل الممارسات الزراعية لإنتاج محاصيل صحية، وإقامة دورات تعليمية وتثقيفية.

وأشار سليم زوين، أحد مؤسسي المبادرة، إلى أهمية تشبيك جهود المزارعين للتصدي للاحتكار الذي يمارسه التجار: "معظمهم يملك أراضٍ صغيرة، وليسوا منخرطين في تعاونيات تفرض شروطها على التاجر". وللتخلص من احتكار الوسطاء أطلقت المبادرة منصة إلكترونية تصل المزارع بالمستهلك مباشرةً، لمساعدة المزارعين في تصريف إنتاجهم، والمستهلكين في الحصول على منتج وطني مستقلّ، إلى حدّ ما، عن العملة الأجنبية.

زراعة السطوح
وكان للمخيمات الفلسطينية حضور عبر مبادرة "جفرا" التي تنشط في مجال الزراعة الحضرية. فقد أطلقت "جفرا" مشروعاً لزراعة أسطح مخيم برج البراجنة، إضافة إلى إنشائها مختبراً زراعياً يعمل على ابتكار واختبار طرق بديلة للزراعة والريّ. ويؤكد مؤسسو الحركة أن "زراعة السطوح يمكن أن تسدّ حاجة المخيم، وهدفنا ليس الاكتفاء الذاتي، بل نعتبر مشروعنا جزءاً من حركة اقتصادية يجب بناؤها في المخيم".

المبادرة هذه بدأت بزراعة سطوح قليلة، لكن سرعان ما انتشرت هذه الممارسة، فغطت اليوم 200 سطح في المخيم. وأصبحت أمكنة باعثة على الراحة، يتعامل معها السكان كحدائق صغيرة لتسجية أوقات هادئة.

مزرعة للتغيير
ويقارب سيرج حرفوش - مؤسس مزرعة "بذورنا جذورنا" في سعدنايل - السيادة الغذائية كمشروع سياسي: "هي بكل بساطة مسألة كرامة وكسر الزعامة وسيادة الآخر عليّ". وتتبنى المزرعة نموذجاً اقتصادياً أفقياً يعتمد على الإنصاف في الرواتب وتوزيع العمل، بالرغم من أن قانون الدولة يفرض تراتبية مؤسساتية.

ويتجلّى نجاح هذه المبادرة في قدرتها على الاستمرار للعام الخامس على التوالي. ويعلّق حرفوش: "برهن التاريخ استمرارها"، مشيراً إلى إمكان بناء مشروع سياسي/اقتصادي بديل ومستقلّ عن المنظومة الكبرى. وسنستثمر كل ما نتعلمه في بناء مشروع سياسي يدفعنا بإتجاه التغيير الجذري".

يبرز توجه هذه المبادرات إلى التماس تغيير جذري في طرق الإنتاج والإستهلاك ونمط العيش. فهي تصرّ على الاعتماد على الذات في إنتاج الحاجات الزراعية الأساسية كالبذور. لذا تعمل "بذورنا جذورنا" على إنتاج البذور المأصلة كي "لا نبقى معتمدين على بذور مستوردة لنأكل".

"حبق" للتنمية
من جهتها تعمل حركة "حبق" - وهي تندرج ضمن مبادرة "سياق" المنظمة للمؤتمر - على تشجيع نشاطات الاقتصاد المحلي المستدام: من الزراعة إلى تأصيل البذور وصناعة الأغذية محلياً وحتى منزلياً، وذلك في إطار تضامني وتعاوني.

يتضح إذاً أن هذه المبادرات ليست مجرّد مشاريع موقتة ومنعزلة عن السياق الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الأكبر، كحال مشاريع منظمات المجتمع المدني التنموية، بل هي جزء من مشروع سياسي تغييري طويل الأمد. ومن هنا يشير مراد عياش، من حركة "حبق"، إلى أن "ضمان استمرار هذا الزخم الذي أثارته الثورة والطفرة في المبادرات المحلية التغييرية، يكون ببناء رؤية وأجندة سياسية موحّدة تشكّل سلة مبادئ الاقتصاد التعاوني المنصف الذي نسعى إلى بنائه".   
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024