عجائب المصارف اللبنانية: كيف تجني الأرباح في عزّ الانهيار؟

علي نور الدين

الأحد 2020/11/01

ليس من الطبيعي بالتأكيد أن يشهد قطاع مصرفي منهار زيادة في نسبة الأرباح، الناتجة عن الفارق بين الفوائد التي يدفعها للمودعين وتلك التي يجنيها من استثمار أو توظيف الأموال التي بحوزته. فأبسط بديهيّات علوم المال والاقتصاد تقول إنّ ربحيّة القطاع المالي يُفترض أن تكون الضحيّة الأولى لهذا النوع من الانهيارات، خصوصاً إذا كان الانهيار ناتجاً في جانب منه عن القرارات الاستثماريّة التي اتخذتها المصارف التجاريّة نفسها. لكنّ، كما كان النموذج اللبناني استثنائيّاً في حجم الأرباح التي تلقتها المصارف على حساب الاقتصاد اللبناني من تضخّم الدين العام والهندسات الماليّة قبيل الانهيار، يبدو أن هذا النموذج سيكون استثنائيّاً أيضاً من ناحية قدرة المصارف اللبنانيّة على حماية أرباحها، وتعزيزها في عزّ الإنهيار المالي.

ظواهر عجيبة
حسب أرقام جمعيّة المصارف، في تمّوز من عام 2019، وفي ما يخص العمليّات التي جرت بالليرة اللبنانيّة، بلغ الفارق بين متوسّط الفوائد التي تدفعها المصارف على الودائع لديها بالليرة، ومتوسّط العوائد التي تجنيها من استثمار هذه الأموال، حدود 0.66%. هذه النسبة، تمثّل ربح المصارف من دورها التقليدي والطبيعي، كوسيط مالي يتلقّى الودائع من الجمهور ويستثمرها في عمليّات الإقراض للقطاعين العام والخاص. لكن في تمّوز من هذا العام، ارتفعت هذه النسبة على نحو مفاجىء إلى حدود 3.12%، أي أنّ هامش الربح هذا بالنسبة إلى العمليّات الماليّة بالليرة اللبنانيّة ارتفع بشكل غريب وغير مفهوم بنحو 4.7 مرّات.

لم يختلف المشهد كثيراً بالنسبة إلى عمليّات المصارف بالدولار الأميركي. بين الفترين أيضاً، ارتفع الفارق بين متوسّط الفائدة المدفوعة على الودائع بالدولار الأميركي ونسبة العوائد من استثمار هذه الأموال من 0.79% في شهر تموز الماضي، إلى 2.53% في شهر تموز الفائت. بمعنى آخر، تضاعف هامش الربح هذا بنحو 3.2 مرّات خلال عام واحد فقط. أمّا المفارقة الكبرى التي نكتشفها عند قراءة هذه الأرقام بالنسبة إلى العمليّات الماليّة بالدولار الأميركي والليرة اللبنانيّة معاً، فهي أنّ مسار الارتفاع السريع في هامش الربح هذا، بدأ تحديداً في شهر تشرين الثاني من العام الماضي، أي بالتوزاي مع دخول البلاد في حقبة الانهيار المصرفي والنقدي الشامل. وهو ما يمثّل ظاهرة غريبة وغير مألوفة أبداً في عالم المصارف والمؤسسات الماليّة.

كيف حصلت اللعبة الخطرة؟
لا يحتاج المرء إلى كثير من البحث لتحليل أسباب هذه الظاهرة الغريبة، خصوصاً إلى عدنا إلى التحوّلات التي حصلت في معدّلات الفوائد الممنوحة لزبائن المصارف اللبنانيّة، مقارنة بما كانت تجنيه المصارف من توظيف هذه الأموال. مع العلم أن قراءة هذه التحوّلات يكشف لعبة كبيرة جدّاً، كانت أشبه بفخ وقع ضحيّته المودع في النظام المصرفي، فيما استفادت المصارف من هذه اللعبة عبر رفع هوامش ربحها بمعزل عن الانهيار الحاصل في البلاد.

فقبيل حصول الانهيار المالي، اندفعت المصارف إلى عرض فوائد خياليّة ومرتفعة لأصحاب الودائع، في محاولة لامتصاص أكبر قدر ممكن من السيولة إلى النظام المصرفي، علماً أن المصارف كانت مدفوعة بهذا الاتجاه نتيجة الأرباح الخياليّة التي كانت تحققها من توظيف هذه الأموال في هندسات مصرف لبنان الماليّة. وعلى سبيل  المثال، بلغ متوسّط نسبة الفائدة التي كانت تدفعها المصارف للمودعين بالدولار الأميركي نحو 6.61% في بداية شهر تشرين الأول من العام 2019، أي قبيل حصول الانهيار المصرفي الكبير ببضعة أيام. أما متوسّط نسبة الفائدة المدفوعة على الودائع بالليرة اللبنانيّة، فبلغت نسبة مرتفعة جدّاً بلغت 9.72% في تلك الفترة أيضاً. باختصار، رفعت المصارف فوائدها لسحب أكبر قدر ممكن من أموال المودعين وتوظيفها في مصرف لبنان.

لكن ما إن حصل الانهيار المالي الكبير في تشرين الأوّل من عام 2019، لم تعد المصارف بحاجة لدفع أي فوائد مرتفعة لمودعيها. فالمودع الذي أغرته الفوائد المرتفعة سابقاً باتت أمواله حبيسة في النظام المصرفي، ولم يعد يستطيع سحبها سواء أعجبته الفوائد الممنوحة أو لم تعجبه. وانكشاف الانهيار في النظام المصرفي لم يعد يسمح باستقطاب أي أموال جديدة، مهما رفعت المصارف من الفوائد التي تمنحها للمودعين. ولذلك، وبعدما أوقعت المصارف المودعين في فخ الفوائد قبل الانهيار، قررت بعد الانهيار خفض الفوائد فجأة، فانخفض متوسّط نسبة الفوائد المدفوعة على الودائع بالدولار من 6.61% في تشرين الأول من العام 2019، إلى 1.28% فقط في آب الماضي، أما متوسّط نسبة الفوائد المدفوعة على الودائع بالليرة فإنخفضت من 9.03% في تشرين الأوّل من العام 2019 إلى 3.47% في شهر آب من هذا العام.

وهكذا انخفضت هنا كلفة فوائد الودائع على المصارف، بعد أن امتصّت المصارف الودائع قبل الانهيار بالفوائد المرتفعة. مع العلم أن خفض هذه الكلفة بعد الانهيار لم يحصل وفقاً لقواعد السوق الطبيعيّة، أي عوامل العرض والطلب على الودائع، بل حصل بشكل قسري ومجحف بحق المودع، كون المصارف استفادت من عدم قدرته على سحب أمواله مهما خفّضت من الفائدة.

في مقابل خفض كلفة الفوائد التي تدفعها للمودعين، استمرّت المصارف بتقاضي العوائد المرتفعة نفسها، والتي كانت تتقاضاها من توظيف أموال المودعين في شهادات الإيداع لدى مصرف لبنان وسندات الخزينة والقروض الممنوحة للقطاع الخاص. مع العلم أن تخفيض فوائد القروض لم يطل الغالبيّة الساحقة من القروض الممنوحة للقطاع الخاص، كون هذه القروض إمّا مرتبطة بسندات ذات دفعات ثابتة، أو بعقود تحدد حداً أدنى للفائدة التي يتم دفعها للقرض مهما انخفضت فوائد السوق.

ولكل هذه الأسباب، وبين انخفاض نسبة الفوائد المدفوعة على الودائع، والتي تمثّل مصدر سيولة المصارف، واستمرار المصارف بتقاضي الأرباح الخياليّة نفسها من عمليّات توظيف هذه السيولة، ارتفعت هوامش ربح المصارف، التي تمثّل الفارق بين كلفة الفائدة المدفوعة للمودعين والعائد من استثمار سيولة المصارف. وهكذا، استطاع القطاع المصرفي، وعلى نحو غريب عن  أعراف وعلوم القطاع المالي، أن يزيد من هوامش الربح في عز الانهيار المصرفي.

طبع النقد لتمويل الأرباح
عمليّاً، تمثّل توظيفات المصارف لدى مصرف لبنان الجزء الأكبر من موجوداتها، ومصدر الأرباح الأكبر لديها، خصوصاً أن جزءاً كبيراً من هذه التوظيفات يمثّل عمليّاً شهادات إيداع عالية الفوائد، جرى الاكتتاب بها في حقبة الهندسات الماليّة، حين كان مصرف لبنان يبذخ على المصارف بمعدلات الفوائد المرتفعة. ولذلك، يمكن القول أن هذه الأرباح المرتفعة يجري تمويلها اليوم بطباعة النقد، أي أن مصرف لبنان يطبع النقد لتمويل استمرار المصارف بتسجيل معدلات الربح المرتفعة. أما السؤال الأهم، فهو عن سبب عدم مبادرة مصرف لبنان إلى إعادة النظر بكل معدلات الفوائد الممنوحة سابقاً على شهادات الإيداع هذه، طالما أن المصارف نفسها خرجت عن قواعد السوق حين حبست أموال المودعين وخفّضت بشكل قسري من معدلات الفوائد الممنوحة لهم؟ وهل هناك منطق في استمرار المصرف المركزي بتحمّل عبء تمويل فوائد لا تمثّل سوى مصدر هامش الربح المتنامي لقطاع مفلس؟  

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024