اللّاثقة من السياسة إلى المال

شبلي ملاّط

الثلاثاء 2020/02/18

السبب الذي يجعل المصارف تلعب دورًا مصيريًا في الاقتصاد الحديث، وتحقّق هذا الكمّ الهائل من الأرباح، وتتمتع بنفوذها المفرط على الساحة العامة، هو مبدأ النسبة الأساسية (ratio) تمكّنها من استخدام واستثمار وتوظيف و"تخصيب" الودائع، على أساس 90 دولار مقابل كلّ 10 دولارات (أو أيّ عملة أخرى). إنها النسبة الذهبية Golden ratio للقطاع المصرفي.

هذا ما لا يستطيع أحد فعله بأموال أي كان. فإذا أعطاك عمرو 10 دولارات وقال لك إنه يمكنك استخدامها كما لو أنها 100 دولار، تعتبره مباشرةً مختلًّا في عقله. إنما هذا ما تفعله عند إيداعك المال في المصرف. أنت "تأتمن" المصرف على أموالك، أو بتعبير أكثر شيوعًا، أنت تؤمن على أموالك وتثق بمحافظة المصرف عليها. لديك ثقة مطلقة بالمصرف الذي تودع فيه أموالك، والنظام المصرفي الذي ينتمي إليه، والاقتصاد الوطني المواكب له، والنظام المالي العالمي الذي يعمل ضمنه. متى فُقدت الثقة بأيّ من هذه المستويات الأربعة، باتت دولاراتك العشرة في طريقها إلى الزوال.

 

الفائدة والوقت
ما الذي يجعل إيداعك المصرفي بنسبة الـ10 في المئة من توظيفه المصرف له فعّالًا الى هذه الدرجة؟ من خلال تجربة دفينة في العصر الرأسمالي الأول، ثبتت ملاحظة بسيطة عند ظهور مصارف "جبال الايمان" أو الثقة Monte di Pietà خلال النهضة الباكرة في مدن إيطاليا، والـpietà  بالطلياني معناها الإيمان أو الثقة. كانت تلك المصارف أشبه بجبال أو أكوام أو تلال صغيرة من الثقة، ممكن تصويرها مجازيًا في صورة "العم سكرودج" وتلّة المال التي يغوص فيها المصرفيّون بسعادة وتؤدة.

وفق النسبة أو المعادلة الذهبية، تقوم بإيداع كومة صغيرة بقيمة 10 دولار، فتتحوّل إلى كومة بقيمة 100 دولار بالنسبة لتوظيفات البنك. ويقوم تسعة أشخاص آخرون بالمثل مع المصرف، فتتحوّل الكومة إلى 1000 دولار تكون بتصرّف مديرها. يستثمرها صاحب البنك ومدراؤه فيعطيك نسبة 0.1 أو 1 أو 5 في المئة، لأنه يريد الحصول على المزيد من المال منك. ببساطة، الاستثمار يعني إقراضه للآخرين بنسبة أعلى. لذلك في حال أعطاك نسبة 1 في المئة من الفائدة، سيقرض البنك طرفاً ثالثاً بنسبة 6 في المئة. عندما يستردّ أمواله، سيسدّد لك نسبة الـ1 في المئة المتّفق عليها، ويحتفظ بنسبة الـ5 في المئة في جيبه. هذا ما يجعل المصارف تكسب هذا الكمّ الهائل من المال.

ليس هذا هو السبب الوحيد الذي يجعل المصارف تحصّل هذا المال الوفير. فالوقت يسري لصالحها، لأنها تتحكم بالأموال، فيمكنّها من القيام بإقراض واسع النطاق، على الرغم من أنها تعلم أنك قد تأتي إليها يومًا وتقول "أعيدوا لي دولاراتي العشرة" التي هي ملكٌ لك. وهي ملزمة بإعادتها لك على الفور، وإلّا ستُعتَبر كأيّ مديون تمنّع عن السداد. بعبارات قانونية بسيطة، أنت قدّمتَ لها المال، الأمر الذي يجعلك دائنًا لها، ويجعلها مديونة لك، بموجب عقد ينصّ على التالي: يعيد المديون الأموال عند الطلب (أو في غضون شهر واحد اذا تمّ تجميده، أو ثلاثة ...). في حال لم يعطك المصرف مالَك، يمكنك الحجز على ممتلكاته لاسترداد مبلغ الـ10 دولارات. وإن لم يكن ذلك كافيًا، يمكنك أن تطلب من المحكمة الإعلان عن إفلاسه. كلّ مواطن لبناني هو في هذا الوضع اليوم، والسبب الوحيد لعدم تمكّنه من استرداد دينه قانونياً هو نظام المحاكم المعطّل.

التهافت والإفلاس
ولكن لماذا تعطي المال لمصرفك في المقام الأول؟ ما هو المبرر الرئيسي الذي يستند إليه النظام المصرفي برمّته؟

الجواب هو ثقتك به. على أساس هذه الثقة، يقوم المصرف بإجراء عملية حسابية بسيطة: إن كان لديه عشرة زبائن، وإن عهدَ كلّ واحد منهم بـ 10 دولارات إليه، من غير المرجّح أن يأتوا جميعهم في اليوم نفسه ويسحبوا أموالهم دفعة واحدة. عامل الوقت يلعب لصالح المصرف. لن يأتي المودعون/ الزبائن في اليوم نفسه، ولن يسحبوا جميع أموالهم دفعة واحدة. فهم يتركونها عادة في المصرف، فهي هناك أكثر أمانًا منه تحت الفراش، أضف أنهم يحصلون على فائدة صغيرة لن يحصلوا عليها من تحت الفراش مهما كان مريحًا. المصرف أكثر أمانًا، ويمنحك بعض الفائدة، كما يمكنك الحصول على بطاقة ائتمان أو بطاقة خصم، ويمكنك استخدام ماكينة الصرّاف الآلي بعد إغلاق المصارف، الخ.
كلّ هذا مشروط بالثقة.

فلماذا الثقة مهمّة إلى هذا الحدّ؟ لأنّ انعدام الثقة يعني التهافت على المصارف، ويعني أنّ المئات والآلاف والملايين من المودعين يهرعون إلى إنقاذ أموالهم من المصارف غير الموثوق بها، والتي تحوّلت إلى جهات مديونة مفلسة. حتى في سويسرا، و في الولايات المتحدة، و في زيمبابوي، عندما تُفقد الثقة، تفلس المصارف في غضون يوم واحد. والملاحظة الأكثر صواباً خلال الأزمة الأميركية المصرفية عام 2008، عندما أفلست مصارف كبرى أولها مصرف ليمان براذرز Lehman Brothers، تلك التي أدلى بها الرئيس بوش في 24 أيلول: "فُقدت الثقة على نطاق واسع، والقطاعات الرئيسية للنظام المالي الأميركي تواجه خطر الإقفال".

انعدام الثقة مألوف لدى المواطنين اللبنانيّين. يتهافتون على المصارف، ينتظرون دورهم في طوابير طويلة وهم محرومون من ممتلكاتها. هناك تعقيدات أخرى طبعاً. لكنّ الأساس بسيط: لا ثقة.

هذه العبارة مألوفة من ثورتنا. لا ثقة. لا ثقة في المصارف، ولا ثقة في العهد الذي أشرف على إفلاسها، ولا ثقة في الحكومة التي فرضها علينا.

لا يمكن لحكومة لم تحظَ بثقة الناس إنقاذ النظام المصرفي. ولهذا السبب أيضًا، واضح أنّ شرط الرجوع إلى المنطقة المالية الآمنة يتطلّب من الحكومة، أي العهد، أي الطبقة السياسية كلّها، العودة إلى البيت.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024