دين وسياسة واقتصاد.. ثلاثي الفساد اللبناني

خضر حسان

الأربعاء 2019/01/30
حطّت الحرب الأهلية اللبنانية رحالها مع نهاية الثمانينيات. توافق الساسة على أن اتفاق الطائف هو نقطة انطلاق المستقبل الجديد للبلاد وأهله. فكان العفو العام عن الدم والسرقة. ارتضى اللبنانيون الواقع الجديد في الظاهر، لكنّهم حافظوا في المضمون على إرث الفوضى، بعد أن غلّفوها بصباغ الدولة والمؤسسات والأجهزة الرقابية. ولم يستطيعوا، بالتالي، خنق رائحة الفساد التي تخطّت الحدود، وباتت إشارة عالمية تدل على لبنان.

تطوّر ميادين الفساد
لم يعد الحديث عن تقاضي الرشى وهدر المال العام، حدثاً صادماً في لبنان، لأنه أصبح سمة يومية، تُسجّل ضمن بديهيات العمل الرسمي، من أعلى الهرم السياسي إلى قاعدته، مروراً بكل الإدارات العامة. وتجاهل المواطنين لمثل تلك الأحداث، أتى على حساب تطوّر مستوى الفساد وأنواعه وانعكاساته. فكلفة سوء إدارة النفايات في لبنان، على سبيل المثال، تُقدّر بنحو 15 مليون دولار سنوياً، وهذه معضلة مستجدّة انعكست على صحة اللبنانيين وزادت من مؤشرات الفساد، لأن ملف النفايات أصبح مادة دسمة لتقاسم الحصص بين السياسيين. فضلاً عن انتشار الأدوية والأطعمة الفاسدة، ناهيك عن بورصة الأسعار، التي لا يحكم ارتفاعها شيء، نتيجة تحكّم عدد من التجّار بالسوق اللبنانية.

قطاع الطاقة يشكّل أحد أبرز القطاعات التي ينخرها الفساد. ومنذ العام 2010 على أقل تقدير، نادراً ما سجّلت أروقة مؤسسة الكهرباء، ووزارة الطاقة، تلزيم مشاريع بطريقة شفّافة، بدءاً من مشاريع شراء لوازم مكتبية، وصولاً الى مشروع تلزيم تأهيل منشآت النفط في طرابلس، مروراً بصفقات بواخر الطاقة. ناهيك بدهاليز القرارات المتعلقة بمولدات الكهرباء الخاصة.

أما البنى التحتية، فتتكفّل الرياح والأمطار سنوياً بفتح ملفات الفساد فيها. وتُقدّم العواصف المسمّاة بأسماء بشرية، الإخبار تلو الآخر إلى المراجع الرقابية، التي تبادل الإخبارات بالتجاهل، وتحيلها إلى التجاذبات السياسية، وتبادل الاتهامات بين المتعهدين، المنوط بهم إنشاء وتأهيل البنى التحتية وصيانتها.

تلك الملفات الثلاث هي الأكثر دلالة على حجم الفساد، لأنها ترتبط مباشرة بيوميات اللبنانيين، على عكس الفساد الإداري في مؤسسات الدولة، والذي يمكن "التطنيش" عنه، فيما لو أن مجالات الصحة والطاقة والبنى التحتية ملائمة لإكمال الحياة اليومية.

الرد على الفساد بالفساد
تتقاذف أحزاب السلطة المسؤوليات عن انتشار الفساد. وتُثار حفيظة كل حزب عند اتهامه بالفساد، حتى مع تقديم الأدلة. ولأن كل أحزاب السلطة باتت متورطة، ومنها من تورط على مدى أكثر من 25 عاماً، بات من مصلحتها تلميع صورتها أمام جمهورها. فارتأت الرد على الفساد بالفساد.

لم يعد كافياً بنظر أحزاب السلطة نفي تهمة الفساد عنها، فالأدلة تحاصرها، بغض النظر عن عدم تجاوب الأجهزة الرقابية. فانتقلت السلطة إلى لعبة الهروب إلى الأمام، فرفعت شعار "محاربة الفساد"، معترفة بذلك أنها انغمست في الفساد، مع مفارقة أن زعماء الأحزاب رموا تهمة الفساد على صغار الموظفين والحزبيين، وأعلنوا نيّة محاربتهم، فأصدروا جملة من القوانين والترتيبات الإدارية، التي شكّلت الأساس النظري للمرحلة الجديدة من مكافحة الفساد، ومنها مثلاً، إقرار قانون حق الوصول إلى المعلومات، قانون حماية كاشفي الفساد، قانون دعم الشفافية في قطاعي الغاز والنفط، اعتماد قانون نسبي للإنتخابات النيابية، إنشاء وزارة دولة لشؤون مكافحة الفساد.. وغير ذلك.

لكن السلطة نفسها لم تطبق القوانين التي أقرّتها، والترتيبات التي وضعتها. ولم ترفع وصايتها عن الأجهزة الرقابية وعن القضاء. وأبقت وزارة مكافحة الفساد، "بلا موازنة أو ملاك. وكان من المفترض أن تؤسس لمكافحة الفساد خلال 6 أشهر، على أن تكون مرحلة انتقالية، تمهد لتنفيذ الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد"، وفق ما قاله لـ"المدن" المكتب الإعلامي لوزير الدولة لشؤون مكافحة الفساد، نقولا تويني.

وعدم تطبيق القوانين هو ضرب من ضروب الفساد. فكيف لسلطة لا تطبّق قوانينها، أن تكافح الفساد؟ على أن أخطر مظاهر الفساد عند السلطة، هو رفع لواء الدين لنفي تهمة الفساد، وللتأكيد على محاربته، وهذا ما يفعله حزب الله بشكل صريح، إذ يستند ساسته إلى التديّن وإلى رفض الدين الإسلامي للفساد و"أكل المال الحرام"، فيما يتحالف الحزب في كافة المفاصل السياسية والاقتصادية للبلاد، مع أحزاب وشخصيات متورطة بالفساد. كما يستفيد بعض نوابه من الفساد لتوسيع تجارتهم الخاصة، أو تجارة أقاربهم وأصدقائهم. أما باقي الأحزاب، فلا ترفع الدين كغطاء، لكنها تستغلّه، لتضفي على سياساتها ومشاريعها صفة الدفاع عن حقوق الطائفة، فيصبح رفض الصفقات المشبوهة، هو رفضٌ لحقوق الطوائف، وإنجازها هو نصر ديني معمّد بالفساد وهدر المال العام.

مسؤولية المواطنين
من مظاهر المراهقة الفكرية والسياسية، الاعتقاد بأن كشف ملف فساد هنا أو هناك، هو الحل الثوري للتخلص من الفساد. فالتصوّر الثوري ضمن الصيغة اللبنانية، يُصيب الثائر بخيبة أمل، تحبط عزيمته على مواصلة معركته ضد الفساد. كما أن تركيبة السلطة السياسية تعمل كمكوّن كيميائي، تقوم جزيئاته بالتكتّل لمنع اختراقه، في حال التصويب عليه مباشرة، وبصورة قاسية. في حين أن محاولة تفكيك المكوّن يمكنها أن تكون الخطوة الأولى في عملية التخلص منه.

غير أن كشف ملفات الفساد يفيد استمرار التصويب على أداء السلطة السياسية. غير أنه يجب أن يقترن بتحرك المواطنين ضد ما اختبروه لعقود. فالشعب اللبناني برأي النائبة بولا يعقوبيان "لم يحاسب المسؤولين يوماً. فعندما أتيحت أمام الشعب انتخابات نيابية جديدة بعد 9 سنوات من التمديد للمجلس النيابي السابق، انتخب الشعب الطبقة السياسية نفسها". ويعود السبب وفق ما قالته يعقوبيان لـ"المدن"، إلى "طبيعة القانون الانتخابي والحملات المذهبية والطائفية وتقاذف المسؤوليات بين السياسيين". ولفتت النظر إلى أن "اللبناني يجب أن يقتنع بأن عليه تعلّم كيفية السير بين الأفخاخ، التي تضعها السلطة، وان ينتخب البدائل عبر التصويت للمستقلين، لأن ذلك يحسّن أداء السلطة".

وحتى لحظة الوصول إلى بارقة تغيير حقيقية، يحافظ لبنان على درجة 28 من أصل 100، للعام السادس على التوالي، بحسب مؤشر مدركات الفساد لعام 2018، الصادر عن منظمة الشفافية الدولية. ورغم استمرار الفساد فيه، تقدّم لبنان من بين 180 دولة، من المرتبة 143 في العام 2017، إلى المرتبة 138 في العام 2018.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024