"فورين بوليسي" تكشف كيف دمج الزعماء اللبنانيون السياسة بالتجارة

سامي خليفة

الأحد 2020/12/13

اقتسمت الطبقة السياسية اللبنانية لعقودٍ المنافع والخدمات والمال العام بعلنية، واحترفت مهنة قيادة الجماعات الطائفية والمذهبية والقبلية. وللزوم اكتمال المأساة، سيطرت هذه الطبقة على التعيينات في الإدارة العامة والقطاع الخاص. وهيمنت على وسائل الإعلام ومجالات الأعمال الأكثر أهمية.

الكارتيلات التجارية
بينما تلعب السلطة السياسية لعبة إغراق الجماعات المذهبية بصراعات لتعطيل الإحساس الوطني، لا يزال المجتمع الدولي، وفق تقريرٍ نشرته مجلة "فورين بوليسي" الأميركية، غير قادر على اكتشاف السمات الرئيسية للسياسيين اللبنانيين. يركّز المانحون على سوء الإدارة الاقتصادية والإرادة السياسية، لكنهم يتجاهلون المصالح التجارية المشبوهة التي يحافظ من خلالها الزعماء الطائفيون على شعبيتهم.

عندما عاد سعد الحريري، إلى منصب رئيس الوزراء في تشرين الأول المنصرم، بعد عام من الاحتجاجات التي أجبرت حكومته على الاستقالة، كان ذلك بمثابة مؤشر مثير للاحباط على عودة الأمور إلى ما كانت عليها. وعلى غرار الرئيس الأميركي المنتهية ولايته دونالد ترامب، ورث الحريري إمبراطورية تجارية من والده، وهو لا يتورّع عن الخلط بين الأعمال والسياسة. وكما ترامب أيضاً، يتمتع الحريري والزعماء الطائفيون الآخرون في لبنان بقواعد تأييد شبيهة للحالة الترامبية. لكن طبعاً ليس هو الوحيد الذي تُوجه إليه أصابع الاتهام. فمنذ فترة الحرب الأهلية اللبنانية، عَمد قادة البلاد إلى دمج السياسة بالتجارة، واستغلال مواقعهم لكسب ولاء مؤيديهم.

وهكذا، صارت الكارتيلات التجارية ذات العلاقات السياسية تحل مكان الإعانات الحكومية، وتزيح الأصول المربحة للدولة، وتزيد تكاليف المنتجات والخدمات الأساسية بشكل كبير. وبذلك، راح الموالون يستفيدون من شبكات المحسوبية الفاسدة التي تربط الناخبين مالياً بقادتهم أكثر فأكثر. أما اليوم، وبعد أن عانى لبنان أسوأ ركود له منذ عقود، وبالكاد يتعافى من انفجار مدمر، فإن الضغوط الاقتصادية الجديدة تجبر الكارتيلات اللبنانية على فعل أي شيء للبقاء باستثناء تغيير مواقعها. يحصل ذلك في وقتٍ يزداد فيه الشعب اللبناني والحكومة اللبنانية انكساراً، ما يترك للنخب الفاسدة مصادر أقل للنهب.

انهيار القدرة الشرائية
وتضيف المجلة بالقول أنه بعد ثلاثة عقود من الاستغلال، نادراً ما يتوقع المستهلكون أن يحصلوا على شيء قيّم مقابل المال الذي يدفعونه. فمعظمهم يعاني من الانقطاع اليومي في التيار الكهربائي ونقص المياه ناهيك أن فواتير الهاتف تُعد الأغلى في المنطقة. ويمتد هذا الابتزاز المؤسسي إلى عمق القطاع الخاص، حيث تقود القلة المحتكرة الكارتيلات في كل القطاعات، من المياه المعبأة إلى زراعة البطاطس.

لكن حتى النخب السياسية التجارية الجشعة في لبنان لم يعد بإمكانها أن تتجاهل الانهيار الاقتصادي الذي أهلك القدرة الشرائية الاستهلاكية. وقد شهد هذا العام سابقة تجلت ببدء اللبنانيين دفع أسعار معقولة مقابل الإسمنت، أحد مصادر الدخل المحببة لدى الكارتيلات. لا سيما أن السياسيين وشركاءهم يسيطرون على شركات إنتاج الإسمنت الثلاث الوحيدة في لبنان وهي "شركة الترابة الوطنية" و"لافارج هولسيم" و"شركة ترابة سبلين".

أسعار الإسمنت
استبعدت التعريفات الباهظة منذ تسعينيات القرن الماضي، المنافسة الأجنبية، ما أجبر المستهلكين على شراء الإسمنت اللبناني باهظ الثمن. لكن في آب المنصرم، اتفق مزودو الإسمنت في لبنان على خفض أسعارهم إلى حوالى 30 دولاراً للطن. وكان هذا انخفاضاً ملحوظاً عن سعر المئة دولار الذي كان معتمداً من قبل، والذي يوازي حوالى ثلاثة أضعاف سعر السوق العالمية. 

وسبق أن تطرق آلان بيفاني، المدير العام السابق لوزارة المالية، في مقابلة أُجريت معه في تشرين الثاني المنصرم، إلى هذه القضية، منوهاً أن حكومة تصريف الأعمال في البلاد هددت برفع الرسوم الجمركية على واردات الإسمنت لضمان امتثال الكارتيلات لسقف أسعار الإسمنت. معتبراً هذه السياسة إحدى "النجاحات الصغيرة" لحكومة حسان دياب قصيرة العمر.

لسوء الحظ، لا يشعر الجميع بالتفاؤل بشأن استمرارية سعر الإسمنت الجديد. فالاتفاق بين الشركات ما زال محدداً على أساس شهري وحسب، ولا تزال المقاومة تجاه المنافسة قوية. وهذا ما يوضحه نافذ ذوق، كبير الاقتصاديين واستراتيجيي الأسواق الناشئة في "أكسفورد إيكونوميكس"، في مقابلة أُجريت معه في تشرين الثاني، عندما قال "عندما جاء الضغط، خفضت الكارتيلات أسعارها لكنها جعلت الأمر صعباً للغاية على الحكومة وقاومت قدر المستطاع".

وإضافةً إلى ما ذُكر آنفاً، تمكنت صناعة الإسمنت من الحفاظ على نظام التعريفة الذي قد يؤدي، في حال إزالته، إلى منافسة فعلية. وبعبارةٍ أخرى، ربما يقبل الكارتيل أسعاراً أقل في الوقت الراهن، لكن ظروف السوق لا تزال سارية لكي يعمد مجدداً إلى استغلال الشعب اللبناني.

كارتيلات الوقود
مع دخول لبنان حلقة الإفلاس، وبما أن الدولة اللبنانية تواجه ثالث أعلى نسبة دين إلى الناتج المحلي الإجمالي في العالم، ستحتاج الكارتيلات اللبنانية، حسب المجلة، إلى التكيف مع الواقع. وباقتراب انتهاء دعم الوقود، سيتعين على مستوردي هذه المادة الأساسية التراجع إلى وضع البقاء على قيد الحياة. خصوصاً أن ثلاث شركات مرتبطة بزعماء طائفيين تتحكم في واردات الوقود إلى لبنان. ولقد سُمح لها تاريخياً بالعمل كوسيط حصري بين الحكومة والدول المصدرة للوقود.

وبهذا الخصوص، تقول جيسيكا عبيد، مستشارة سياسة الطاقة المستقلة، إن احتكار القلة يتحكم في هذا القطاع المربح للغاية. وتضيف "كيف يتم إبرام العقود؟ هناك علامة استفهام كبيرة في هذا الشأن.. لكنهم بالتأكيد يحققون نسبة عالية من السوق اللبنانية. الآن، مع انخفاض احتياطيات العملات الأجنبية بشكل خطير، فإن هؤلاء المستوردين على وشك فقدان هذه الدجاجة الذهبية. وعلى المدى القصير، سيتحمل كارتيل استيراد الوقود الخسائر على أمل أن يتمكن من إعادة جني الأرباح في المستقبل".

مشكلة الزعماء الطائفيين
يخاطر لبنان برفضه التدقيق الجنائي، كما تشير المجلة، بخسارة عشرات المليارات من الدولارات من المساعدات من صندوق النقد الدولي والدول المانحة. وقد أصبح جلياً أن الشخصيات السياسية اللبنانية غير مهتمة بإصلاح الاقتصاد، ما يعني بالضرورة التخلي عن ثرواتها.

ومع ذلك، فإن الحقائق الاقتصادية الجديدة تزعزع استقرار بعض الكارتيلات بشكل تلقائي. إذ يمكن أن يؤدي انهيار العملة المحلية إلى معالجة إدمان لبنان غير الصحي على الواردات، والتي انخفضت بالفعل بنحو 50 في المئة مقارنة بالعام الماضي. ويتضح هذا الأمر بشدة في المناطق الريفية اللبنانية، حيث يؤدي نقص العملة الأجنبية إلى زعزعة أسس كارتيل البطاطس الراسخ، والذي طالما استغل صغار المزارعين.

وتلفت المجلة إلى حقيقة أن الزعماء الطائفيين اليوم في أدنى مستوياتهم السياسية منذ عقود، حتى أنهم بدأوا يواجهون مشانق رمزية في الشارع منذ الانفجار الكارثي في مرفأ بيروت في الرابع من آب المنصرم. كما أن مشاكلهم المالية قد تكون أكثر ضرراً بكثير. وإذا تمت الاستدانة بشكل صحيح، يمكن للمانحين منع السياسيين عن مصادر دخلهم غير الأخلاقية وإجبارهم على إجراء إصلاحات حقيقية، بما يشمل قوانين تضمن المنافسة وتكافؤ الفرص لجميع الشركات. وهذا ما فشلت الحكومات المتعاقبة في إقراره، لأنه سيسمح للمنتفعين بالتنازل عن أبقارهم النقدية العزيزة.

إضاعة الفرص
يعتقد آلان بيفاني أن أي شيء أقل من إصلاح اقتصادي شامل سيهدر مركزاً تفاوضياً فريداً. وقد عبّر عن ذلك بقوله "سيميل الحريري إلى عقد صفقة مع صندوق النقد الدولي، ربما بأقل مبلغ مصحوب بأدنى إصلاحات. وستكون هذه كارثة لأنها فرصة ضائعة للتغيير".

وفي ظل المعاناة من الضربات السياسية والاقتصادية الشديدة، يقف الزعماء الطائفيون في لبنان على المحك. لذلك تشير المجلة بأنه طالما بقيت إقطاعياتهم التجارية على حالها، فإنهم لن يقدموا على أي تغييرٍ ملموس.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024