الهيكلة: حزب الله والحكومة ينكفئان واللوبي المصرفي ينتصر

علي نور الدين

الأحد 2020/07/19
في الشكل، عمل حاكم مصرف لبنان بالصلاحيّات التي منحه إياها قانون النقد والتسليف، حين أصدر المذكرة الإداريّة رقم 2272، والتي نصّت على إنشاء لجنة خاصّة تسمّى "لجنة إعادة هيكلة المصارف". لكن في المضمون، يدرك المتابعون أن القرار مثّل رصاصة الرحمة على خطّة الحكومة، التي استهدفت إعادة هيكلة القطاع المصرفي وفق آليّة معيّنة لاحتساب الخسائر ومعالجتها.

وبعد أن أطاحت لجنة تقصّي الحقائق النيابيّة مقاربات الخطة الحكوميّة من ناحية كيفيّة احتساب خسائر المصارف ومصرف لبنان، يمكن القول إن خطوة سلامة الأخيرة أجهزت على الجزء الآخر من الخطة، والمتعلّق بكيفيّة التعامل مع خسائر المصارف التجاريّة وطريقة إعادة هيكلتها.

بإختصار سحب رياض سلامة ملف إعادة الهيكلة من يد الحكومة وخطتها، ليضعه بعهدة لجنة أكثر حرصاً على مصلحة المصارف والمساهمين فيها، بحكم تركيبتها.

ماذا سيتغيّر في مسار إعادة الهيكلة؟
كان من المفترض، بحسب الخطة التي عملت عليها الحكومة وشركة لازارد، أن تنطلق عمليّة إعادة هيكلة المصارف من تقدير معيّن للخسائر القائمة حاليّاً في القطاع المالي، نتيجة تعثّر الدولة في سداد ديونها والفجوات الموجودة أساساً في ميزانيّات المصرف المركزي والمصارف المركزيّة. وعمليّاً، كان من المفترض أن تكون نتيجة هذا المسار تحميل جزء من الخسائر لرساميل المصارف من خلال شطبها، وفرض عمليّة إعادة رسملة من خلال إدخال مساهمين جدد، أو تحويل بعض الودائع إلى مساهمات.

بمعنى آخر، اقتصت عمليّة إعادة الهيكلة كما رأتها الخطة وجود تدخّل قسري من خارج القطاع ومصرف لبنان، لفرض الاعتراف بالخسائر، ولفرض تحميلها للمساهمين في القطاع المصرفي. وعمليّة احتساب الخسائر تمّت في الواقع داخل الخطّة نفسها، وهي عمليّة حملت بصمات شركة لازارد التي عملت في العشرات من دول العالم لتحديد هذا النوع من الخسائر.

في المقابل، ينطوي المسار الذي أطلقه المصرف المركزي على توجّه مختلف تماماً. فبحسب المذكرة التي وقعها الحاكم، ليس أعضاء اللجنة سوى ممثلين عن المصارف نفسها، ومصرف لبنان، إضافة إلى لجنة الرقابة على المصارف التي تتقاسم المصارف التجاريّة النفوذ فيها مع حاكم المصرف المركزي نفسه.

وبعبارة أوضح، تتشكّل اللجنة تحديداً من الأطراف التي رفضت كليّاً الاعتراف بالخسائر التي تحدّثت عنها خطّة لازارد والحكومة، ناهيك عن رفض هذه الأطراف طريقة معالجة هذه الخسائر، وتحديداً من ناحية تحميل الرساميل جزء منها.

دمج واستحواذ لمصلحة المصارف
ببساطة، نحن أمام لجنة لا تملك المصلحة ولا النيّة لتحديد الفجوات الموجودة في ميزانيّات القطاع المالي بشكل صريح. وهذه اللجنة لن تتجه حكماً إلى أي إعادة هيكلة يمكن أن تؤثّر على مصالح ورساميل المساهمين في القطاع. مع العلم أن المصارف كانت منسجمة طوال الفترة الماضية مع حاكم المصرف المركزي في معركة تقييم الخسائر وتوزيعها. الإشكاليّة هنا واضحة إذاً: ما قام به سلامة ليس سوى اعطاء ممثلين عن القطاع المالي نفسه، أي المصارف ومصرف لبنان، صلاحيّة تحديد القدر الذي يتحمّلونه بأنفسهم من الخسائر في عمليّة إعادة الهيكلة.

وإذا كان مسار إعادة الهيكلة هذا غير قادر على تأسيس تصحيح جدّي في مسألة الخسائر، فجلّ ما تستهدفه المصارف والمصرف خلال المرحلة المقبلة، هو الدخول في مسار طويل من عمليّات الدمج والاستحواذ بين المصارف القائمة، من دون أن تطال هذه العمليّة حجم الرساميل نفسها.

عملياً، يمكن القول إن التوجّه نحو إعادة الهيكلة من خلال عمليّات الدمج والاستحواذ في القطاع المصرفي، أصبح اليوم مسألة تصب في مصلحة المصارف نفسها، خصوصاً مع ضمور حجم عمليّاتها بعد توقّف عمليّات التسليف وتوطين الرواتب واستقطاب الودائع، واقتصار عمل فروعها على عمليّات روتينيّة بسيطة.

بمعنى آخر، أصبح دمج العمليات بين عدة مصارف، ودمج فروعها، مسألة ضروريّة لتقليص نفقات هذه المصارف، وحماية ما تبقى من أرباح أو الحد من الخسائر على الأقل. مع العلم أن الحد من الخسائر اليوم بات مسألة ملحّة للمساهمين في الكثير من المصارف اللبنانيّة، لأن توسّع هذه الخسائر سيؤدّي في النهاية إلى تآكل رساميلهم في القطاع.

لكن مسألة الدمج والاستحواذ، وإن صبّت في صالح بعض المصارف والمساهمين فيها، لن تنفع عمليّاً في معالجة الفجوات الموجودة في ميزانيّات القطاع المالي، ولا في استعادة المودعين أموالهم المحجوزة في المصارف. فالغالبيّة الساحقة من المصارف اللبنانية تتشابه فعليّاً في انشكافها على ديون الدولة ومصرف لبنان المتعثّرة. وهذا الانكشاف هو الذي يمثّل الفجوة التي سببت أزمة السيولة فيها، وهو ما أدّى إلى تعثّرها في سداد الأموال للمودعين. أما دمج هذه المصارف اليوم، فلن يؤدي سوى إلى تشكيل مصارف أكبر، بميزانيّات تحتوي على نفس الانكشاف على ديون الدولة ومصرف لبنان. مع العلم أن ثمّة مصارف قليلة جدّاً وبرساميل صغيرة، لا تعاني من حجم الانكشاف هذا، لكنّ أصحاب الأسهم فيها لن يوافقوا حكماً على دمج رساميلهم في مصارف أكبر تعاني هذا النوع من المشاكل.

اللوبي المصرفي ينتصر
حتّى اللحظة، لم تبادر الحكومة أو رئيسها إلى الرد أو التعليق على خطوة حاكم المصرف المركزي الأخيرة. مع العلم أن هذه الخطوة تمس بشكل مباشر الخطّة الماليّة التي صوتت عليها الحكومة في وقت سابق. تؤكّد هذه المستجدات وما تبيّن في الأيام الماضية من مؤشرات، انكفاء رئيس الحكومة في مقابل اللوبي المصرفي، الذي سجّل تقدّماً كبيراً بعدما تبنّت لجنة تقصّي الحقائق النيابيّة معظم مقارباته، لتطيح بذلك بمقاربات خطّة الحكومة.

ومن الواضح أن انكفاء رئيس الحكومة ناتج عن إدراكه عمق المشكلة التي تقع فيها حكومته اليوم، بعد تفاقم جميع أعراض الانهيار الاقتصادي القائم، وعدم امتلاك حكومته أي تصوّر لكيفيّة التعامل مع هذا الواقع. وهذا يعني فقدان الحكومة جميع أسباب البقاء، باستثناء عدم وجود البديل المتفق عليه. ولذلك، يتفادى رئيس الحكومة اليوم الدخول في مواجهة مفتوحة مع اللوبي المصرفي الذي أثبت سطوته داخل المجلس النيابي، في محاولة لعدم تورّط دياب في أي صراع يمكن أن يطيح حكومته في الفترة المقبلة. ببساطة، يشتري دياب اليوم المزيد من الوقت للحكومة.

حزب الله يتكفئ
أما حزب الله، الذي يمثّل الطرف السياسي الأشد تمسّكاً بالحكومة اليوم، وحافظ على خطاب بعيد عن المصارف قياساً بباقي الأحزاب في الفترة الماضية، فلا يبدو أنّه في وارد الدخول في مواجهة مع حاكم المصرف المركزي أو المصارف على خلفيّة هذه المستجدات. فالتطورات الأخيرة أثبتت أن الحزب مدرك حجم التحديات السياسيّة التي يواجهها في الفترة المقبلة، وخصوصاً تلك المتعلّقة بارتباطاته الإقليميّة ونفوذه المحلي، وتأثير هذه العوامل على تطورات الأزمة الماليّة.
لذلك، يبدو أن هذه التحديات تفرض على حزب الله حاليّاً الإبتعاد عن الانخراط في مواجهة لا تفيده مع لوبي مالي منظّم قادر على التأثير بفاعليّة على جميع القوى السياسيّة في البلاد.

كيف نحفظ حقوق المودعين؟
في المحصّلة، يبدو أن مسألة المعالجات المتعلّقة بالقطاع المصرفي وإعادة هيكلته ستُترك في الفترة القصيرة المقبلة لحاكم المصرف المركزي، ليدير هذه المعالجات بالطريقة التي يراها مناسبة، من دون أن يلتزم بأي مسار تفرضه عليه السلطة السياسيّة.

أما أصحاب الودائع، وإن حافظوا في الفترة المقبلة على القيمة الدفتريّة لودائعهم في ميزانيّات المصارف بعد الشروع بعمليّات إعادة الهيكلة، فمن الواضح أنهم سيكونون عرضة لاقتطاع مقنّع من ودائعهم، إذا لم يجر التعامل مع الخسائر القائمة في القطاع المالي بصراحة وشفافيّة لمعالجتها. وذلك من خلال إخضاع المودعين على المدى الطويل لعمليات سحب الودائع المدولرة بالليرة بأسعار صرف منخفضة كما يجري الآن.

باختصار، لن تُحفظ حقوق المودعين قبل الوصول إلى مرحلة تمكين المصارف من تسديد الودائع بقيمتها الفعليّة. وهذا مستحيل من دون معالجة الفجوات الموجودة في ميزانيّات المصارف. ومسار إعادة الهيكلة الحالي لا يبشّر بإمكان الوصول إلى هذه المرحلة.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024