إلى الصندوق على الأقدام!

عصام الجردي

الجمعة 2020/02/14

نستعين اليوم بصندوق النقد الدولي ومساعدته التقنية. أي من خارج برنامج قروض الصندوق، ما لم يقرر لبنان وضع أزمته في تصرفه لالتزام لائحته الإصلاحية. في المساعدة التقنية سيفتح الصندوق تقاريره التي أعدها عن لبنان بموجب المادة الرابعة. وفيها كل ما طلب إلى الحكومات ومصرف لبنان القيام به. أكان على صعيد العجز والدين، أم على صعيد  الإصلاحات المالية والهيكلية المطلوبة، ووقف الفساد وإهدار المال العام. الصندوق كان أرأف من الحكومات في التنبيه إلى وجوب اعتماد المساعدات للفئات الأكثر تهميشًا.

الحُكم وليس الحكومة
تقارير الصندوق أظهرت في 2017 وضع مصرف لبنان السالب من الاحتياط الصافي بنحو 14 مليار دولار أميركي في 2016. وحذّرت من الهندسات المالية التي يتبعها المصرف. من سمع؟ لا الحكومات أقدمت على الإصلاحات، ولا العجز المالي ضُبط، ولا الدين توقف عن الارتفاع. بينما استمرّ مصرف لبنان في هندساته وتعقيم ما نضُب من التدفقات النقدية لقاء الفوائد الباهظة. بل وحفّز المصارف على استجلاب العملات الأجنبية من الخارج لتموين احتياط صافٍ هشّ، لتمويل عجز الدولة التي تمادت في الإنفاق الزبائني الجاري. وفي مجالات لا علاقة لها بالاقتصاد والاستثمار وخلق القيمة المضافة وفرص العمل. بينما تهاوى "خطاب الاستقرار النقدي والودائع المحفوظة التي لا خوف عليها". وبدأ النمو في التراجع بحدة، بعدما سُدّت في وجهه مقوماته وحوافزه ومعدلات الفوائد الاستثمارية. هل بات للحكم أُذنان لتسمع الآن نصائح صندوق النقد الدولي؟ بعد أن وصلنا إلى الانهيار، وبتنا حيارى بين خياري تصنيف الدولة الفاشلة المتوقفة عن الدفع، أو السداد المرحلي لدفعة من الدين، ثم العجز عن تأمين تمويل السلع والخدمات الحياتية والإنسانية؟

نقول الحُكم وليس الحكومة، لأنه بعد سنوات ثلاث على انتخاب رئيس الجمهورية ميشال عون، سمعنا كلامًا على الدوام بمحاربة الفساد والاقتصاد المنتج، ووقف الإهدار المالي، لكننا لم نلمس أثرًا لكل ذلك. بل ازدادت الشهية للاستحصاص والهيمنة على الإدارة العامة وازدياد العجز لنشهد الانهيار بعد ذلك. ملف الكهرباء الذي يصرّ رئيس الجمهورية على خصّ تياره به من دون غيره في وزارة الطاقة والمياه، في بطنه نصف الدين العام. قبلناه لقاء الكهرباء. أمّا بلا كهرباء نطأطئ رؤوسنا خجلًا في "بلد الاشعاع والنور" في الألفية الثالثة. ونذرف دموعًا.

الحكومات السابقة مسؤولة بالتأكيد مع الحُكم عن هذا الانهيار. حكومة حسّان دياب لا تتحمّل أي مسؤولية. لكن رئيسها رضي بحكومة تنفجر الأزمة في وجهها. وطلب مئة يوم مهلة نحاسبه بعد انقضائها. لذلك بدا على ما نقلت عن أوساطه مصادر خليجية إنه يميل إلى خيار سداد الدولة استحقاق آذار. ربّما لأنه لا يريد لحكومته أن تكون شاهدًا على توقف لبنان عن الدفع، والنكول بالتزامات الدولة مرّة أولى في تاريخ لبنان. "لأن الفريق السياسي الذي حكم لبنان طويلًا، هو نفسه يطالب رئيس الحكومة الجديد بعدم الالتزام بالمستحقات المتوجبة عليه" على ما نقلت المصادر نفسها عنه. وختمت المصادر "هل يعي الساسة اللبنانيون خطورة عدم الالتزام بدفع المستحقات المتوجبة على الدولة"؟ بيد أن دياب كان مدركًا تمامًا ما ينتظره، ووافق على "تنكب المهمّة". وهو بين الرمضاء والنار ليختار ويقرّر في الأيام المئة الأولى مع رئيس الجمهورية.

قبل الجدولة وصندوق النقد الدولي لتفادي كأس التوقف عن الدفع، فأي قرار يبقى قاصرًا ما لم يكن شموليًا. الدين والسداد من عدمه، متلازم مع حماية حقوق المودعين في المصارف. واجتناب أي انهيار مصرفي دون ارتدادته مطافئ العالم. وفكّ أسر الاقتصاد والنمو العاثر من براثن القيود على التحويلات. ولا تعبثوا بآلام الناس والفقر والضائقة المعيشية والبطالة. ضاق الوقت على الجدولة تقولون. فوجئتم باستحقاق 1,2 مليار دولار أميركي في آذار. أليس كذلك؟ لكن بعده نيسان وحزيران. الاستحقاقات الإجمالية مع فوائدها في 2020 نحو 4,5 مليارات. الجدولة تعني كل استحقاقات اليوروبوندز من نحو 30 مليارًا حتى 2030. ربما في بلد منقوص الثقة قد يقبل الدائنون الجدولة بخسارة نحو 20 سنتًا من أصل القسيمة في كل دولار أميركي للنفاد بريشهم. موافقة الدائنين تحتاج إلى ضمانة ليست متوفرة سوى من صندوق النقد. الجدولة بالضغط على الدائنين ستعتبرها وكالات التصنيف  ليست خيارية. وقد تخفض التصنيف إلى درجة قبل التوقف عن الدفع.

من باع السندات؟
فجأة بسحر ساحر، ارتفعت الحيازات الأجنبية من اليوروبوندز إلى نحو 30 في المئة في عملية خبيثة، يبدو إنها استندت إلى تسرّب معلومات تتصل بالقرار الحكومي من السداد. وكانت حصة غير المقيمين من السندات لا تزيد عن 15 في المئة. الدائنون الأجانب من ذوي المخالب لا تشملهم تسويات محلية قد تحصل على الديون! التخلّف عن السداد يوصد المنافذ على الخارج نهائيًا ويعزل لبنان ماليًا ويعرضنا لدعاوى وحجز أصول على أنواعها. ويفترض إنه يرغم المصارف اللبنانية على حمل مؤونات عالية على سندات اليوروبوندز وهي لم تنجز زيادة رساميلها بعد. علما أن تصنيف لبنان تراجع إلى درجة المخاطر C وكان على مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف إخطار المصارف بتلك المؤونات. أما السداد واستنفاد العملات الأجنبية لتوفير السلع والخدمات الحياتية والإنسانية يفتح باب جهنّم.

هل سيتغير شيء!
لكن مهلًا. كل القرارات تحتاج إلى مواقيت والتزامات جديدة بالدفع. حاملو السندات على الاستحقاق من صناديق ومؤسسات استثمارية وأفراد، حقوقهم مضمونة على أصل السند بسعر قسيمة الإصدار. سواءٌ بالإصدار الأوّلي أم من الأسواق الثانوية. الثقة بالدولة اللبنانية وبالمؤسسات والدستور، ستلعب دورًا مهمًا لإقناعهم بكل الخيارات الحكومية من أوراق الدين الخارجية. هل سيتغير شيء في أخلاقنا السياسية لنقلع عن النقائص والرذائل والزعرنة كي نقنع الدائنين بـ"حسن الطوية"؟! أقله أن تقول هذه الحكومة "قررت استرداد كل ما للدولة من حقوق يسلبها بلطجية في السياسة والإدارة العامة، والشروع بشطف الدرج من فوق، وتنظيف الإدارة والمؤسسات كلها من السخام وفيروس الكورونا". بعدها فقط السيطرة على العجز المالي.

لا هذا ولا ذاك ولا ذينك من قرارات.. فذاهبون إلى صندوق النقد مشيًا على الأقدام. بقيت كلمة. كفّوا عن التهديد بالإجراءات الموجعة. الفقراء يتوجعون وهم المقصودون بالتهديد. دواء الصندوق ليس من هذه الصيدلية.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024