المصارف المنتشية بالحريري.. هرباً من دفع ثمن الانهيار

علي نور الدين

الإثنين 2020/10/26
منذ أعلن الحريري استعداده للعودة إلى رئاسة الحكومة، تفاءلت المصارف بقرب انتهاء المرحلة الأصعب التي تعيشها. لذا، اندفعت إلى البدء بترتيب أوراقها بحماسة، استباقاً لحقبة مريحة تمكّنها من الانسجام مع المعالجات الحكوميّة المقبلة. وفي مصرف لبنان بدأ تحضير أفكار عمليّة يمكن تقديمها للحكومة المقبلة، لتعديل خطّة الإصلاح المالي على أساسها، بما يريح المصارف ومصرف لبنان معاً.

فالحريري - وإن حمل في الشكل العناوين العامّة للمبادرة الفرنسيّة وإصلاحات صندوق النقد - مازال يمثّل لأركان المنظومة الماليّة في البلاد، الإبن البار للنظام ولتقاطع المصالح بين الحكم ومراكز النفوذ الاقتصادي والمالي. ولم يكن حاكم مصرف لبنان وجمعيّة المصارف ينتظران خبراً أفضل من تسمية الحريري لتشكيل الحكومة، خصوصاً بعدما تبيّن أن الحريري نسج قبل تكليفه تفاهمات مع رئيس المجلس النيابي، الذي يشاطر الجمعيّة والحاكم أولويّات عدّة.

المصارف تعدّل خطتها
أولى خطوات جمعيّة المصارف استباقاً لعودة الحريري، بدؤها العمل على تعديل خطتها الماليّة، لتعبيد الطريق أمام التفاهم مع الحريري على معالجات قابلة للتنفيذ والتسويق لدى صندوق النقد والجهات المانحة.

فيوم أعدت جمعيّة المصارف خطّتها الاقتصاديّة، بمعاونة الشركة الاستشاريّة الماليّة GSA، جاءت تلك الخطة رداً على خطّة حكومة حسّان دياب، التي أعدّتها شركة لازارد (استشاري الحكومة المالي). وخطة دياب - لازارد احتوت بنوداً ومقاربات أزعجت جمعيّة المصارف. وفي طليعتها شطب رساميل المصارف. لذا مالت خطّة جمعيّة المصارف إلى مقاربات غير واقعيّة، وغير قابلة للتنفيذ أو حتّى للتسويق لدى صندوق النقد أو الجهات المانحة الدوليّة. فالجمعيّة لم يكن هدفها طرح معالجات منطقيّة، بل حملة إعلاميّة تقول إن لدى المصارف ما تطرحه في مقابل خطّة لازارد، استعداداً منها للمقايضة لاحقاً، ولردم الهوّة بين الخطتين في المفاوضات بين الشركتين الاستشاريّتين في فرنسا أواخر أيام حكومة دياب.

أمّا اليوم فباتت المصارف تدرك أن القادم إلى السرايا الحكومية، إذا نجح مسار التشكيل، حريص على رساميلها ومصالح مساهميها إلى حد كبير. وهي تدرك أيضاً أن جيش الاستشاريين المتحمّسين في السرايا أيام دياب، بات من الماضي. وعمليّاً، سيعدل الحريري في المرحلة المقبلة خطّة الحكومة، فيقصي البنود التي أثارت نقمة المصارف على لازارد وحكومة دياب. لكن التعديل سيتلاءم مع الشروط التي وضعها صندوق النقد والفرنسيون لتقديم الدعم.

ويرجح بعض المصادر المصرفيّة أن يتعذّر التوفيق التام بين مصالح المصارف وشروط الصندوق. فتوجّهات لازارد انطلقت أساساً من المقاربات التقليديّة المعروفة لدى صندوق النقد. لكنّ الحريري سيتجه حكماً إلى تقليص فاتورة التصحيح على مساهمي المصارف وأصحابها إلى أقصى حد، من دون أن يطيح بمسار التفاوض مع صندوق النقد. وهذا النهج يفضي بالتأكيد إلى تحميل فئات أخرى جزءاً أكبر من فاتورة التصحيح، كالمودعين وعموم المستهلكين المتضررين من التضخّم وطبع العملة، لتقليل الالتزامات المترتبة على المصارف. لكن هذا النهج سيمتلك غطاء سياسياً أوسع، بعدما تبيّن أن الغالبيّة الساحقة من الكتل النيابيّة تبنّت فعليّاً مقاربات جمعيّة المصارف في المجلس النيابي.

ولتسهيل مهمّة الحريري في حماية مصالحها، باشرت المصارف بالتقدّم خطوة نحوه. فطلبت من شركتها الاستشاريّة الماليّة (GSA) مباشرة العمل على تعديل خطتها، وتضمينها معالجات أكثر واقعيّة وقابليّة لتتبناها الحكومة. ولدى وصول الحريري إلى رئاسة الحكومة، يُنتظر أن يتقدم خطوة في اتجاه جمعيّة المصارف، لملاقاتها في منتصف الطريق، عبر تعديل خطة الحكومة وتضمينها مقاربات أخف وطأة على جمعيّة المصارف. وفي مسارها تراهن المصارف على الدعم الذي نالته أخيراً في لجنة المال والموازنة، لدعم الجهد الذي سيقوم به الحريري في مجلس الوزراء بهذا الاتجاه.

مصرف لبنان يستعد
لم يكن المصرف المركزي بعيداً عن هذه التطوّرات. أبرز المستجدات مباشرته العمل على معالجة القسم المتعلّق بالقطاع المالي من الخسائر، لتقديمها بديلاً تقنياً عن المقاربات التي طرحتها خطّة لازارد. وتقضي أحدى هذه الطروحات بتحويل جزء من الودائع المصرفيّة الكبيرة إلى حقوق أو سندات منتجة للفوائد، من دون ربط هذه السندات أو الحقوق باستحقاقات زمنيّة معيّنة. على أن تكون هذه الفكرة بديلاً عن طرح شركة لازارد، الذي قضى بتحويل هذا الجزء من الودائع إلى أسهم في المصارف بعد تحميل رساميل المصارف جزءاً من الخسائر القائمة اليوم.

أما الهدف النهائي من هذه الفكرة، فهو تجنيب القطاع المصرفي ومساهميه الكأس المر لشطب الرساميل، وما يعنيه ذلك من تحوّل في ملكيّات المصارف وهويّة الأطراف التي تسيطر عليها.

عمليّاً، يمكن القول إن هذه الخطوات لا يمكن فصلها عن إدراك حاكم مصرف لبنان مدى انسجام الحريري معه، في أولويّة حماية القطاع المصرفي من أي مساس كبير في ملكيّة الأسهم والرساميل. فالحريري نفسه رفع خلال حقبة حكومة حسان دياب شعار رفض "وضع اليد على المصارف"، معتبراً آنذاك أن هذه المسألة "إنقلاب على النظام المصرفي وخطوة تعيد لبنان إلى زمن الأنظمة الشموليّة".

وفي الحالات كلها، يمكن القول إن الحاكم يراهن - داخل صندوق النقد ودولياً، وتحديداً الولايات المتحدة - على إمكان تسويق فكرة رفض "وضع اليد على القطاع"، من زاوية أن شبط الرساميل وتحويل قدر كبير من الودائع إلى أسهم، قد يؤدّي داخل القطاع إلى سطوة أطراف معيّنة مستجدة غير مرغوب بها من الناحية السياسيّة، كحزب الله أو رجال الأعمال والمتموّلين الكبار المقرّبين منه.

استحقاقات لا مهرب منها  
بمعزل عن كل هذه التطوّرات المؤاتية لحاكم مصرف لبنان وجمعيّة المصارف، يمكن القول أن الحكومة ستواجه تحديات لا يمكن التملّص منها، مهما حاولت التماشي مع مصالح الفئة النافذة في القطاع المالي اللبناني. فصندوق النقد لن يتراجع عن مطلب التدقيق الجنائي مهما كانت طبيعة خطّة الحكومة. وإذا كان مصرف لبنان يستفيد حاليّاً من الفراغ الحكومي للتملّص من تلبية طلبات شركة التدقيق، بذريعة العوائق القانونيّة، فمن المؤكد أن الحكومة المقبلة ستكون أمام استحقاق تذليل هذه العقبات ومعالجتها.

ومهما حاولت الحكومة التشبّث بتقليص الخسائر التي ستتحمّلها رساميل المصارف إلى الحد الأقصى، فمن المؤكد أن صندوق سيظل يعتبر أن المس بالأموال العامّة، لإطفاء خسائر القطاع المالي مسألة غير محبّذة. وهذا يطرح أسئلة جديّة حول قدرة المصارف على تنفيذ مخططها، الذي يقضي بتحميل الجزء الأكبر من الخسائر إلى الصندوق السيادي المزمع تأسيسه لتنظيم عمليّة خصخصة الأملاك العامة، تحت ستار الشراكة بين القطاعين العام والخاص، لمعالجة الخسائر.

في هذا المشهد، سيكون الحريري أسير مصالح القطاع المالي الذي يحرص عليها جيّداً. وكذلك أسير دفاعه الدائم والتاريخي عن سياسات ومقاربات حاكم المصرف المركزي. لكن الرجل يدرك في الوقت نفسه، أن عليه إقناع الحاكم وجمعيّة المصارف بتقديم بعض التنازلات للتفاهم مع صندوق النقد الدولي وبرنامج دعمه. وإرساء التوازين بين هذين العاملين، سيكون العنوان المالي والاقتصادي الأبرز لهذه الحكومة.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024