السياسات الإقتصادية في لبنان: الأرقام أوّلاً لا البشر

حسن الحاف

الخميس 2014/05/22
لم يكن موفقاً الإجتماع الذي عقد قبل يومين بين وزير المالية علي حسن خليل وبين حاكم مصرف لبنان رياض سلامة والهيئة العامة لإدارة الدين العام. وذلك ليس على مستوى الإجتماع بحد ذاته، بقدر ما هو على مستوى الموضوع المطروح والكلام الوارد على لسان كلّ من خليل وسلامة. 
ذاك ان "وضع الخطوات العامة لإستراتيجية الدين العام"، لم تعد قضية القضايا بالنسبة للبنانيين، في هذه المرحلة العصيبة، لا سياسياً وأمنياً فحسب، وإنما إقتصادياً وإجتماعياً أيضاً. وهي لم تكن يوماً كذلك، إلا بفعل الدعاية القوية التي اعتمدها راسمو السياسات الإقتصادية، تحت عنوان أن الدولة لا تستطيع الإنفاق على من تجبي منهم الضرائب. لماذا؟ لأنها مهمومة في سداد فاتورة الدين التي تراكمت بفعل برنامج إعادة الإعمار، الذي أعقب إنتهاء الحرب الأهلية. 
والحال أن كثراً من اللبنانيين آنذاك صدقوا هذه الحكاية الوهمية. وبرغم أن العلاقة بين الدين العام وبنية الإقتصاد راحت مع الوقت تكتسب أبعاداً بنيوية، بحيث غدت مكوناً عضوياً من آلية عمل الإقتصاد، إلا أن صنّاع القرار أصرّوا على طبع صورة "يوم القيامة" عن الدين في مخيّلات اللبنانيين. بكلمات أخرى، بات الشغل الشاغل لهؤلاء، إقتصادياً ومالياً، إقناع اللبنانيين بأن الإنفاق العام يجب ان ينصب في غالبيته على إطفاء الدين، وإلّا سينهار العالم اللبناني برمّته. الكلام عن شيء آخر، سيعني "نهاية العالم" اللبناني الجميل والمزدهر. 
وإذا كانت التقيّة اللبنانية، تجمع دوماً على عدم تسمية الأسماء بأسمائها، حرصاً على ما تصفه بـ"التعايش الوطني"، فإن الإشارة إلى راسمي هذه اللوحة الداكنة بالأسماء، تكاد لا تعفي أحداً من المسؤولية. حقيقة الأمر، ان وزراء المالية المتعاقبين، نظّروا لهذه اللوحة، بالتواطؤ مع حاكمية مصرف لبنان، وبتعاون منقطع النظير من ممثلي الطوائف اللبنانية كافة في مجلسي النواب والوزراء. ورعت التطبيق بحذافيره سلطة الوصاية السورية، التي تبوأت بقوّة عسكرها وأمنييها مركز رئيس مجلس إدارة النهب العام (لا الدين!).      
على ان الموضوع الجوهري الذي يقض مضاجع اللبنانيين اليوم، كونه يمس حيواتهم في الصميم، يتصل بنسب البطالة المرتفعة، التي تنذر إجتماعهم الهش بأوخم العواقب. فعلى الرغم من أنها شكّلت تاريخياً سمة أساسية من سمات النمط الإقتصادي القائم، إلا أنها بلغت اليوم معدلات خطيرة، لعلها غير مسبوقة. 
فبحسب توصيات بعثة صندوق النقد الدولي، الذي تلتزم الحكومات اللبنانية دوماً بتوصياته في ما يخص التقشف حصراً، تسبب التدفق الهائل للّاجئين السوريين إلى لبنان بكشف مواطن الضعف الكامنة في سوق العمل. 
تأسيساً على ذلك، قدّرت البعثة في تقريرها الصادر في التاسع من أيار الجاري إثر زيارتها لبنان، ان "يكون معدل البطالة قد تضاعف إلى 20%، عاكساً زيادة دراماتيكية في عرض العمالة من جراء تدفق اللاجئين". علماً ان البعثة، زارت بين من زارت، وزارة المالية وحاكمية مصرف لبنان، ولعلّها حصلت على هذا الرقم من أحد الأجهزة الإحصائية التابعة لهما.  
وبحسبة بسيطة، وإستناداً إلى أعداد العاملين في لبنان الواردة في دراسة الأحوال المعيشية للأسر الصادرة في العام 2007، بالتعاون بين وزارة الشؤون الإجتماعية ومنظمة العمل الدولية، يتبين أن عدد هؤلاء الـ20% حوالي 223600 عاطل من العمل. فبحسب تلك الدراسة، التي يفترض منطق الأمور خلال السنوات الثلاث الأخيرة أن نتائجها إزدادت سوءاً، بلغ عدد العاملين في لبنان (في عمر 15 سنة وما فوق) حوالي 1118000 فرد، أما عدد العاطلين من العمل (في عمر 15 سنة وما فوق) فبلغ 110000 فرد". 
معنى هذا أن 223600 أسرة لبنانية باتت تقريباً بلا معيل، خصوصاً ان الدراسة عينها تشير إلى أن نسبة العاملين من الفئة المذكور أعلاه تبلغ 39.5% من إجمالي السكان المقيمين من الفئة نفسها، بينهم 61.2% ذكور، و19% إناث. وذلك، من دون ذكر ما تعرض إليه العاملون في الإقتصاد غير النظامي، الذي تقدر بعض الجهات حجمه الفعلي بحوالي 40% من إجمالي النشاط الإقتصادي. هذه، في كل حال، أرقام تعود للعام 2007، فيما تعرضت البنية الإقتصادية – الإجتماعية اللبنانية لزلزال ضخم، خلال السنوات الثلاث الأخيرة التالية على الإنتفاضة السورية. 
ما تقدّم، يؤشر إلى عمق النفق الإجتماعي المظلم الذي دخله اللبنانيون، خصوصاً لناحية تزايد معدلات الفقر والبطالة، المترافق مع تراجع كبير في أداء الخدمات العامة، الصحية والتعليمية والكهربائية. وفيما يحصل ذلك كلّه، يجتمع أكبر مسؤولَين في الدولة، معنيين بالملف الإقتصادي الإجتماعي، لبحث "إستراتيجية الدين العام"، ومعناها العملي بحث السبل الأنسب لسداد فوائد الدين الأعلى عالمياً للمصارف اللبنانية. هذا فيما باتت الجدوى من السياسات والإستثمارات في العالم برمّته، تقاس إستناداً إلى مدى قدرتها على توليد فرص عمل.
غداً، سيخرج هؤلاء جميعاً، ومعهم بقية المسؤولين في الدولة ليطلعوا اللبنانيين، بالوقائع والأرقام، على ان اللاجئين السوريين يأخذون من درب أولادهم رغيف الخبز والكتاب وحبّة الدواء. 
المصيبة ان اللبنانيين، الذين عاينوا بالملموس وعبر تجاربهم الشخصية، ما إقترفته أيادي ممثليهم في السلطة، سيتفاعلون مع هذا الكلام كما لو أنهم كانوا يعيشون في نعيم... إستحال، على غفلة منهم، جحيماً! 
للحقيقة والتاريخ، ذاكرة اللبنانيين لا يعوّل عليها. لعلّها السبب الأول لمأساتهم المستمرة منذ دهر.   
 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024