الجمارك على طريق الخصخصة: المستفيدون والمهرّبون والمتضررون

علي نور الدين

الأحد 2019/07/21

التوجّه نحو "تعديل النظام الجمركي" كان أبرز الشروط أو "الإصلاحات" التي فرضها مؤتمر سيدر، ولو من دون الكثير من التفاصيل، باستثناء الكلام عن آلية تسهيل دخول السلع وخروجها من لبنان، من خلال هذا التعديل. لكن كان من الواضح منذ ذلك الوقت أن مفاهيم الخصخصة والشراكة مع القطاع الخاص ستجد طريقها إلى النظام الجمركي قريباً، خصوصاً أن روحيّة مؤتمر سيدر ومشاريعه كانت تتجه نحو تطبيق هذه المفاهيم في جميع القطاعات التي شملتها مشاريع المؤتمر.

خصخصة معاينة الحاويات
تشير التطوّرات إلى أنّ الجمارك ستكون في طليعة الإدارات الرسميّة التي تسير باتجاه خصخصة بعض أنشطتها بعد مؤتمر سيدر. ففي جلسة مجلس الوزراء الأخيرة، كان من المفترض أن يتم مناقشة مشروع المرسوم الخاص بالنظام الإلزامي لمعاينة ومراقبة الحاويات والبضائع والمركبات في الموانىء اللبنانيّة، قبل أن يتم سحب المشروع بشكل مفاجىء عن جدول الأعمال لمعالجة بعض التفاصيل الخلافيّة. وفي حال تصويت مجلس الوزراء على مشروع المرسوم في الجلسة المقبلة، سيفتح المرسوم الباب الواسع أمام خصخصة مهام معاينة البضائع المستوردة، وهو ما يثير اليوم الكثير من التساؤلات والمخاوف لدى الفئات المتضرّرة (نشرت "المدن" تفاصيلها). 

فالمشروع ينص على اعتماد مؤسسة خاصة بمعاينة الحاويات والمركبات والبضائع الواردة إلى الأراضي اللبنانيّة عبر الموانىء، وتولّي المؤسسة تركيب وتجهيز وتشغيل كافّة التجهيزات والأنظمة والبرامج التي تحتاجها لتنفيذ هذه المهام. كما يعطي مشروع المرسوم هذه المؤسسة صلاحيّة تأمين الموظّفين والعمّال وجميع الأدوات التي تحتاجها لتشغيل هذه التجهيزات. بمعنى آخر، ستقوم هذه المؤسسة تحديداً بجميع المهام التي يقوم بها جهاز الجمارك وموظّفيه في مجال الكشف على البضائع المستوردة.

الكلفة على من؟
إذاً، وبالتوازي مع وجود جهاز كامل مختص بالنشاط الجمركي في مجال الكشف على البضائع ومعاينتها، سيتم فرض وجود شركة موازية تقوم بالمهام نفسها وبموارد بشريّة موازية للموارد البشريّة الموجودة. والأهم، سيسمح مشروع المرسوم للشركة الخاصّة باستيفاء رسوم مباشرة من المستوردين لقاء قيامها بأنشطتها. وهو ما يعني تحميل المستهلك في السوق المحلّي الكلفة الإضافيّة من خلال ثمن السلع لاحقاً. وبينما يفرض القانون حاليّاً الكشف على البضاعة بشكل إنتقائي ومن خلال عيّنات محدّدة، يفرض مشروع المرسوم الكشف على جميع البضاعة الواردة. وهو ما يعني المزيد من الأرباح للشركة المشغلة، والمزيد من الكلفة على المستوردين والمستهلكين.

من جهة أخرى، يتحدّث المتحمّسون لمشروع المرسوم عن ضرورة تزويد الموانىء اللبنانيّة بأجهزة السكانر اللازمة للكشف على البضائع المستوردة، وهو ما لا تملك الدولة حاليّاً الموارد الماليّة الضروريّة لتنفيذه. وحسب وجهة النظر هذه، سيسمح مشروع المرسوم بشراء التجهيزات المطلوبة من دون تحميل الدولة هذه التكاليف في الوقت الحاضر. مع العلم أنّ السكانر الموجودة حاليّاً أصبحت مستهلكة وخارج الخدمة، وهو ما يساهم في تسهيل أعمال التهريب.

لكنّ الحجج هذه يقابلها حقائق مناقضة، فمن بين العيّنات التي يتم اختيارها للكشف والمعاينة عادةً، لا يتم استعمال السكانر والكشف الشعاعي إلا في عدد محدود من الحالات التي تستدعي هذا النوع من الكشف، بينما لا تستدعي غالبيّة البضائع المستوردة إجراء الكشف الشعاعي بسبب إمكانيّة الكشف المباشر عليها. أما مشروع المرسوم المطروح، فهو يفرض تلزيم كل عمليّة المعاينة على البضائع المستوردة مقابل بدل مالي، وهو ما يفرض كلفة إضافيّة تستفيد منها الشركة الخاصّة من دون مبرّر فعلي.

تضارب مصالح
مشروع المرسوم، الذي قدّمه وزير المال، وعمل على تمريره قبل رفعه من جدول الأعمال، يحمل الأفكار التي تحمّس لها منذ البداية المجلس الأعلى للجمارك، الذي دعا أساساً إلى مباشرة العمل على المرسوم. مقابل هذه الحماسة، يبرز تحفّظ واضح من ناحية ضبّاط وعناصر المديريّة العامة للجمارك والمخلّصين الجمركيين وغيرهم من مقدّمي الخدمات، الذين يعتبرون أنّ الشركة ستقوم بمهام يقومون بها هم حاليّاً.

فالشركة التي ستقدّم خدماتها بشكل مباشر للمستوردين، ستأخذ عمليّاً الدور التقليدي الذي كان يقوم به المخلّصون الجمركيّون كوسطاء ما بين الإدارة والمستوردين. كما ثمّة مخاوف من غيرهم من مقدّمي الخدمات من توسّع عمليّات هذه الشركة، لتطال خدمات أخرى مثل النقل داخل المرفأ، خصوصاً أن النص يعطي هامشاً واسعاً للشركة للتوسّع في عمليّاتها من دون تحديد دقيق.

بين الفساد والخصخصة
لا يوجد اليوم من ينكر وجود مساحة واسعة جدّاً من التهرّب الجمركي، وخصوصاً بوجود شبكات متخصّصة في هذا النوع من الأنشطة التي يسمع عنها اللبنانيّون كل يوم. كما من الواضح أنّ ثمّة تحفّظات على مشروع المرسوم ترتبط بمصالح وشبكات نفوذ قائمة بفضل النظام الجمركي الموجود حاليّاً، وهو ما يفقدها الكثير من الصدقيّة. لكن من ناحية أخرى، يبدو أن مشروع المرسوم يبتعد كثيراً عن التعاطي مع الحاجة الفعليّة في مجال الإصلاح الجمركي، ويذهب باتجاه مقاربات تحقق الربح المطلوب للشركة الخاصّة، من دون البحث عن الفعاليّة أو الكلفة الأدنى على المستهلك.

وما بين الخصخصة، بوصفها الخيار السهل والمربح لأصحاب المصالح، وشبكات النفوذ والمنافع القائمة حاليّاً والمتضرّرة من المشروع، يبدو أن المواطن سيستمر بدفع الثمن، بمعزل عن الطرف الذي سيكسب هذه المعركة.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024