تشريع "الكابيتال كونترول" مجدداً: قصّ رقابنا وحماية المصارف

علي نور الدين

الثلاثاء 2020/05/26

كلّما غابت فكرة قوننة الكابيتال كونترول لفترة وجيزة، عادت لتطل برأسها من جديد من نافذة أخرى. بإختصار، يبدو أن هناك يكفي من أسباب للضغط من أجل إقرار هذا القانون بالذات، الذي يهدف إلى إعطاء غطاء قانوني لكل إجراءات ضبط السيولة التي تمارسها المصارف، سواء تلك التي تتعلّق بإيقاف التحويلات الماليّة إلى الخارج، أو تلك التي تمنع السحوبات النقديّة بالدولار الأميركي. وكما توحي آخر الصيغ المطروحة اليوم، من الواضح أنّ الهدف النهائي من التشريع المقترح اليوم هو توفير حصانة للمصارف، تحميها من أي ضغوط قانونيّة في المحاكم الأجنبيّة، على خلفيّة التخلّف عن الإيفاء بإلتزاماتها.

توافق أمل والتيار العوني
فكرة "الكابيتال كونترول" شهدت الكثير المد والجزر طوال الفترة الماضية. بدأت القصّة بمسودّة مشروع قانون أعدّها وزير الماليّة غازي وزني، وأحالها إلى رئاسة مجلس الوزراء، قبل أن تدخل على الخط مجموعة من إستشاريي رئاسة الحكومة ومصرف لبنان والمصارف. وهو ما أفضى إلى إدخال تعديلات كبيرة على المسودّة المطروحة من وزني. لكنّ فكرة مشروع القانون سُحبت لاحقاً من طاولة مجلس الوزراء، إثر اعتراضات مفاجئة وغامضة، أبداها ممثّلو "الثنائي الشيعي" في الحكومة، وهو ما ظهر كانعكاس لموقف رئيس المجلس النيابي من فكرة مشروع القانون. وفي ذلك الوقت، ربط البعض موقف برّي المستجد بالاعتراض على تجاوز موقع وزير المال في التعديلات التي لحقت بمشروع القانون بعد تقديمه من قبله، وقبل عرضه على مجلس الوزراء للمناقشة، مع كل ما يعنيه موقع وصلاحيّات وزير المال الشيعي من حساسيّات معروفة لدى رئيس المجلس النيابي.

في كل الحالات، عادت الفكرة اليوم إلى التداول من خلال مسودّة جديدة عمل عليها النوّاب، آلان عون وسيمون أبي رميا وياسين جابر، المنتمين الى التيار الوطني الحر وحركة أمل، بينما جرى إخراج التوافق حول هذه الصيغة بين الفريقين من خلال اجتماع جمع نبيه برّي بجبران باسيل منذ أيّام.

فهم الجميع النتيجة: طريق مشروع القانون أصبحت سالكة باتجاه المجلس، وبصيغة المعجل المكرر.

المعضلة البيروقراطية
وبمراجعة الصيغة الجديدة، لا يبدو أنّ هناك أي جديد في ما يخص الحقوق التي سيستفيد منها المودعون. فالمسودّة تتحدّث عن ضمان حريّة استخدام الأموال الجديدة أو الطازجة، فيما تقوم المصارف اليوم بإعطاء هذا الحق للمودع، كون استقطاب هذه التحويلات من جديد مسألة تصب في صالح النظام المصرفي نفسه، حتّى أنّ بعض المصارف ذهبت بعيداً في حماستها لهذه التحويلات، بالترويج للأنواع المختلفة من حسابات الأموال الطازجة والخدمات والمزايا المرتبطة بها.

كما تشير المسودّة إلى تمكين المودع من إجراء التحويلات إلى الخارج في بعض الحالات التي تمثّل حاجة شخصيّة ملحّة، كدفع الديون أو الضرائب في الخارج، أو تسديد الأقساط ونفقات الاستشفاء. وحددت سقف لهذا النوع من العمليّات قدره 50 ألف دولار أميركي للمودع. وعمليّاً، تعلن المصارف أساساً منذ تشرين الأوّل الماضي التزامها بهذه القاعدة، فيما تكمن المشكلة في آليّة تنفيذها والإجراءات البيروقراطيّة الداخليّة في المصارف التي تعرقلها. وبهذا الخصوص، لم تحمل هذه البنود في مسودّة مشروع القانون أي جديد من هذه الناحية كونها –وعلى عكس الصيغة المقترحة القديمة- لم تحدد آليّة دراسة هذه الطلبات.

أمّا في ما يخص السحوبات النقديّة بالعملات الأجنبيّة، فتفادت الصيغة المقترحة التطرّق إلى المسألة برمّتها، وهو ما يبقي الكرة مجدداً في ملعب المصارف، التي تمتنع عن تمكين المودعين من سحب أي مبالغ بالعملات الأجنبيّة، فيما يحدد كل مصرف بشكل إستنسابي القيمة الممكن سحبها بالليرة وفقاً لعميم مصرف لبنان رقم 151.

أبواب الاستنسابية
في المحصّلة، لن يحمل مشروع القانون أي جديد بالنسبة إلى حقوق المودعين، ولا حتّى من جهة منع الاستنسابيّة في التعاطي، كون المسودّة المطروحة لا تعالج مسألة الضوابط على السحوبات النقديّة، التي يمكن أن تشكّل باباً كبيراً من أبواب الاستنسابيّة في التعاطي مع المودعين. وعمليّاً، لا يمنع مشروع القانون الحالي –إذا أُقر- من تمكين بعض النافذين لاحقاً من الاستفادة من هذه الثغرة، إذا أرادوا تهريب بعض الودائع المتبقية خارج النظام المالي. وفي كل الحالات، بات التعاطي مع الاستنسابيّة في التعامل مع المودعين مسألة متأخّرة بعض الشيء، خصوصاً أن حجم الودائع التي جرى تحويلها بعد 17 تشرين الأول يوحي بأن الفئات القادرة على تهريب ودائعها قد استفادت منذ ذلك الوقت من عدم وجود ضوابط رسميّة على تحويل الأموال.

أمّا النتيجة الوحيدة لمشروع القانون، فهي توفير الغطاء القانوني اليوم لكل الإجراءات المصرفيّة المعمول بها منذ تشرين الأوّل الماضي. ولعلّ إعادة طرح مشروع القانون اليوم، وبصيغة اقتراح القانون المعجّل المكرّر بعد تأجيل التعامل معه لفترة طويلة، يتعلّق تحديداً باقتراب لبنان من مرحلة التفاوض حول الخطّة، التي ستحدد توزيع خسائر الانهيار بين جميع الأطراف بمن فيهم المودعين، مع كل ما يعنيه هذا الأمر من استعمال كل طرف لكل أوراق الضغط الممكنة. وأحد أوراق الضغط التي سيستطيع بعض المودعين من ممارستها في تلك المرحلة ستكون بلا شك المحاكم الأميركيّة، حيث تملك المصارف ما تبقى من موجودات خارجيّة. وهنا، يأتي دور مشروع القانون لسد هذه الثغرة.

لهذا السبب تحديداً، لم يكن هناك ضرورة لذكر موضوع السحوبات النقديّة. إذ أنّ قانون النقد والتسليف يمثّل غطاء قانونياً كافياً حين يعطي الليرة اللبنانيّة القوّة الإبرائيّة الشاملة، والتي تعطي المصارف حق دفع كل الودائع عند السحب بالليرة، وبحسب سعر الصرف الذي حدده لها مصرف لبنان. وبذلك يبقى موضوع السحب النقدي باباً للاستنسابيّة، من دون أن يشكّل ثغرة قانونيّة يمكن أن تؤذي المصارف.

وهكذا، يشرح ما تناوله وما لم يتناوله مشروع القانون الهدف الكامل منه: توفير الغطاء للنظام المصرفي في الخارج، وليس منع الاستنسابيّة بين المودعين.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024