"بطيخ الانتخابات" ولا شمّام باريس!

عصام الجردي

الإثنين 2018/04/16

"النأي بالنفس" لم يعد مسألة قابلة للتجاهل في الملف المالي والاقتصادي. لم تبرح هذه القضية كل المؤتمرات التي نظمت لمساعدة لبنان مالياً واقتصادياً. ولم يعد الخروج من الأزمة المالية والاقتصادية– الاجتماعية رهناً باجراءات تقنية. القرار السياسي بات شأناً معيارياً في هذا المجال، سواء أكان على مستوى تحسين الادارة العامة ومخرجاتها في عملية الاصلاح لقطع الطريق على الفساد المالي والإهدار، أم على مستوى صوغ رؤية تنموية تبدأ بنمو مستدام يتصدى بإلحاح للمشكلات الاجتماعية. تعبئة الموارد لازمة لا غنى عنها للتنمية، ولحشد التأييد الشعبي لجَسر فجوة الثقة المفقودة بين المواطن وبين السلطة. هل نحن مؤهلون لتأمين تلك الشروط؟ هنا السؤال الفيصل وليس في مكان آخر.

كتبنا باكراً في هذه الزاوية عن مفارقة تقرير مؤتمر سيدر1 في فترة زمنية تسبق انتخابات نيابية يفترض أن تنتج مجلس نواب جديداً وحكومة جديدة تلتزم التعهدات. في الدول العميقة التي تعمل فيها الدساتير والقوانين، تشكل التزامات الحكومات التزاماً على الدولة. من هذا المنظور، فتعهدات مؤتمر سيدر1. فالمجتمع الدولي ما زال يتعاطى مع لبنان دولة بدستور وقوانين رغم كل الوقائع المناوئة. فترة السماح التي حازها لسداد التزامات القروض، هي فترة سماح سياسية أيضاً، كي يتمكن لبنان وسلطته الشرعية من إعمال الدستور والقوانين. الاصلاحات المطلوبة لن تحصل من خارج السياق المذكور. وقد أخفقنا فيها أكثر مرة. كان آخرها في مؤتمر باريس3 في 2007. لم نف بتعهدات الاصلاح التي قدمناها. ولم نحصل من قروض المؤتمر ومساعداته التي بلغت أكثر من 7 مليارات دولار اميركي سوى على أقل من 60% منها. لكن في السنوات الأربع 2007– 2010 حقق النمو معدلات عالية بلغت في المتوسط نحو 8% سنوياً. وفي الحقبة نفسها نشطت حركة التدفقات الخارجية وبلغ فائض ميزان المدفوعات التراكمي أكثر من 16.750 مليون دولار اميركي. لكن الفائض التراكمي انقلب بين 2011– 2017 عجزاً بنحو 13.109 مليار دولار اميركي. ولم يتغير الاتجاه في الربع الأول من 2018. بينما ما زالت معدلات النمو على ضفاف الركود 1% و1.5%.

تأتلف الأزمة المالية والاقتصادية بالاقتصاد السياسي في الوجه السالب لمفهوم الاقتصاد السياسي من ناحيتين. الأولى عجز سياسي مؤسسي على ارتباط بطبيعة النظام السياسي المعادي للاصلاح والمنتج للمساوئ. هذا الوضع هو الذي يقود البلاد إلى نظام عميق ودولة هشة. في دول المؤسسات والدستور وحكم الشعب، لا تستوي هذه المفارقة. يحصل تغيير النظام. أو يتم إصلاحه بما يضمن بقاء الدولة والكيان. عندنا تتوحد قوى النظام فيعيد انتاج نفسه. وتتهدد الدولة والكيان. أما الناحية الثانية فتتمثل بانكشاف قوى النظام على الخارج والمخاطر الجيوسياسية والاقليمية. اعتمدنا "سياسة النأي بالنفس" عن الأزمات الاقليمية ابتكاراً لبنانياً حملناه معنا إلى مؤتمر سيدر1. وما زلنا نطوف به في الخارج لتفادي انفجاراً داخلياً يقول لنا المسؤولون إن الدولة ستكون الطرف الأضعف فيه، لو حصل الانفجار فعلاً. آخر تطوافنا في "الابتكار" المذكور سيكون في القمة العربية المنعقدة في الظهران. بينما الواقع لا نحن نأينا بأنفسنا عن أزمات المنطقة ومخاطرها، ولا الأزمات نأت بنفسها عنا. حين نقول إن حزب الله لبناني ويمثل فئة واسعة من اللبنانيين، وله كتلة وازنة في مجلسي الوزراء والنواب، فالأمر مفهوم ومحسوم. حين يقرر الحزب التدخل عسكرياً في أزمات المنطقة، بلا قرار سياسي من الحكومة أو من مجلس النواب الممثل فيهما، والحزب جزء من قرار لبنان السياسي والسيادي، فالأمر ليس محسوماً ولا مفهوماً، بمعيار الدولة والكيان والمؤسسات الدستورية. لأن لبنان هو المتدخل في مثل هذه الحال.

عبثاً ننشد خلاصاً من أزماتنا المالية والاقتصادية والاجتماعية بلا دولة ومؤسسات ودستور وقوانين. واقع حالنا من شأنه إحباط كل ملامح الانفراج والفرص التي تتراءى لنا من المؤتمرات والدول والمانحة بعجرها وبجرها. ولا تعوزنا الدلائل وقد خبرناها سنوات طوالاً. آخرها الأسبوع الماضي. أي بعد مؤتمر سيدر1 في باريس. التعهدات التي صدرت عن المؤتمر أرخت حال انفراج في سوق المال. وهي شديدة الحساسية تجاه التطورات في الاتجاهين. بعد الضربة الاميركية الفرنسية والبريطانية لمواقع في سوريا، ظهرت عروض بيع من سندات الدين اللبنانية في الخارج من الفئات طويلة الأجل. وبحسب التقارير ارتفع متوسط المردود المثقل من 6.41% في الأسبوع الذي سبق الضربة إلى 6.60% هذا الأسبوع. كما اتسع متوسط هامش الدين المثقل بمقدار 15 نقطة أساس. إلى 420 نقطة من 405 نقاط قبل الضربة. وعلى صعيد تكلفة تأمين الدين، اتسع هامش مقايضة المخاطر الائتمانية لسنوات خمس إلى 465 نقطة أساس هذا الأسبوع، من 440 نقطة أساس في الأسبوع السابق. والمؤشران انعكاس دقيق لعلاوة المخاطر السيادية والسياسية للبلد المدين. وتكلفة إضافية إلى الدين العام.

هل سيتغير شيء بعد الانتخابات النيابية الشهر المقبل؟ لا. ونخشى ظروفاً أسوأ. ونأمل أن تعبر الانتخابات بسلام. قانون الانتخابات النيابية معتدى به على النسبية والمشاركة الشعبية والديموقراطية. حتى على "الديموقراطية التوافقية" المشوهة. هو واحد من أدوات النظام لإعادة انتاج نفسه كما أشرنا، بحلة المذهب والطائفة والعائلة، وبفروخ الاقطاع السياسي. لينتهي المطاف إلى صون النظام الأوليغارشي. ما هي نتائج الانتخابات على تعهدات مؤتمر سيدر1؟

كل تعهدات المؤتمر مرتبطة بالحكومة الجديدة وبتشريعات تصدر عن مجلس النواب. الهبة لا تقبل إلاّ بقانون. لو أوغلنا في التفاؤل والرضا عن النفس، فتأليف حكومة المجلس الأولى لن يكون بعيداً من التطورات الاقليمية. رئاسة الحكومة معقودٌ لواؤها لرئيسها الحالي سعد الحريري. هكذا يوحي لنا الأخير مؤيداً من فريق رئيس الجمهورية ميشال عون. "أدام الله الوفاق". وصدر عن جماعة الفريقين همسٌ مفاده أن رئاسة مجلس النواب ليست مضمونة لرئيسه الحالي نبيه بري. هذا كلام لضمان تشكيلة الحكومة وتوزيع بطيخ السلطات العليا. أي انتاج النظام نفسه من جديد. "كل واحد له بطيخة". بري يقر بذلك. الآخرون لا. يبقى استعصاءان. الأول، توزيع الوزارات وتحديداً المال والخارجية. وما ماثلهما من "وزارات بسيادة كالداخلية والعدل. وأخرى بلا سيادة"! والثاني، البيان الوزاري ومقولة "الشعب والجيش والمقاومة". هذه هي أولويات الحكومة في ضوء المتوقع انتاجه من الانتخابات النيابية. نعم صدقوا. بطيخ الانتخابات ولا شمّام باريس!

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024