مهلاً.. التغيير شامل!

د.جنان شعبان

الجمعة 2019/10/25

17 أكتوبر، كان فجرًا للأمل والتفاؤل، ويوما تأسيسيًا لمستقبل لبناني واعد، يوم خرج فيه جيل شباب لبنان الواعد، من انتماءات القبيلة والطائفة والزعيم إلى رحاب ثقافة مدنية عصريّة، لا تعتبر السلطة غنيمة حرب، ولا الخدمة العامة أو الوظيفة هبة زعيم أو نافذ، تريد صيانة المال العام وأملاك الدولة وهيبتها، وعازمة على تغيير أصحاب القرار فيها والقابضين على زمامها.

تريد تحرير الدولة من منتحلي صفة قيادتها وإدارة شؤونها، تهتف لإسقاط النظام لا لتدميره، بل لإعادة بنائه حديثًا رحبًا، يكفل كل شروط الدولة المدنية الحديثة.

جيل استعاد الفضاء العام في كل ميادينه، فجدّد اللغة والخطاب والثقافة والقيم؛ وأعاد وصل مناطق ومدن لبنانية، فرقتها أحزاب الطوائف، وصبغتها بالكراهية خطابات أهل السلطة وفاسديها، ورسمت في الإعلام والسياسة جدرانًا من الحظر على رجال النظام ومثقفيهم وأبواقهم ودفعتهم إلى زاوية الصمت والحيرة، ونزعت من عيون حيتان المال ووجوههم كل علامات الإستعلاء ومظاهر وإشارات شخصياتهم السادية بالإصرار على استغلال الأزمات لمضاعفة الأرباح. إنّه فجر جديد تليه صباحات وأنوار، وإصرار على البناء والإستثمار فيها.

من أين نبدأ؟
من وعي الثوار المنتفضين بحراك مدني والتي بدأت تصفق له شعوب الأرض بتفاعلاته الحضارية؟ أو من وعي الثوار الذي أدى إلى إعادة توجيه البوصلة إلى سمو وفرادة لبنان كرسالة حضارية للعالم أجمعين؟ أو من وعيهم الذي فرض على الجميع ضرورة التحدّث بموضوعية ووفق قواعد المنطق والعلم انطلاقًا من القضيّة الوطنية الدستوريّة وصولا إلى إنجاز التغييرالحقيقي؟ التغيير الحقيقي الآت لا محال من خلال العقد الجماعي الذي فرضه الثوار بينهم وبين الآخربن المستفيدين من النظام الحالي ان صح التعبير.

فلطالما تغنّى لبنان بوحدة شعبه وفرادته وتنوّع ديانات مواطنيه وتعدّد مذاهبهم، وتسميته بسويسرا الشرق، لما يتميز به من جمال الطبيعة وكرم وطيبة أبنائه، كلّهم بمختلف مشاربهم ومعتقداتهم إلى أن وقعت الواقعة وأريد لهذا البلد أن يكون ساحة قتال للخارج، فاستغلوا ما كلن ثراءً للبنان وجعلوه سمًا فتاكاً فتك بأهله سنوات عجاف.

لقد تمت قوننة الطائفية السياسية بصورة مؤقتة منذ النسخة الأولى من دستورنا اللبناني، بنص المادة 95 منه التي وردت على الشكل التالي: "بصورة مؤقتة، وعملًا بالمادة الأولى من صك الإنتداب، والتماسًا للعدل والوفاق، تمثل الطوائف بصورة عادلة في الوظائف العامة وبتشكيل الوزارة من دون أن يؤول ذلك إلى الإضرار بمصلحة الدولة". ثمّ ما لبثت أن اكتسبت تلك الطائفية السياسية الجنسية اللبنانية، بعد التعديل الجزئي للدستور العام 1943، مرورًا بالتعديل الأخير له الذي تم وفاقًا لمندرجات وثيقة الطائف العام 1990. وإن كان التعديل الأخير قد تضمن في المادة 95 منه، إلغاء الطائفيّة السياسيّة على مراحل ووفق خطة تضعها هيئة وطنية تضم بالإضافة إلى رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء شخصيات سياسية وفكرية واجتماعية. ولكن وللأسف الشديد، فقد تربع على عرش هذا البلد حكامٌ أتقنوا اللّعب على الوتر الطائفي من جديد وأبّدوا المؤقت لمصالحهم ومآربهم الشخصيّة، فجيشوا اللبنانيين وحزّبوهم ومزّقوهم حتى استتب لهم الأمر، فأكلوا من خيرات هذا البلد ونهبوا أمواله وأفقروا أهله وهجّروهم، وما يزالون.

لقد ورد اعتماد الطائفية في دستورنا الجديد ولكن بصورة مؤقتة، والسؤال البديهي اليوم، أما آن الأوان أن تنتهي صلاحية هذه الصورة المؤقتة والإستثنائيّة!؟

لقد أثبتت ثورة 17 تشرين الأول، حيث ثار جزء كبير من الشعب اللبناني في جميع أراضي الدولة اللبنانية كشعب واحد غير طائفي وغير مذهبي وغير مناطقي، ضد كلّ الفساد والفاسدين، وعبر رافضًا تقسيمه وتفريق شمله متمسكا بوحدته. فهل أتت هذه اللحظة المنتظرة، اللحظة الوطنية والفرصة التاريخية في لبنان التي يمكن أن تختصر كلّ التمهيدات المطلوبة من أجل إزالة العقبة الأساسية التي أخرت وتؤخر تطورنا وتزيل ما يحول دون وحدتنا الحقيقي؟

يبدو أن اللحظة أتت بعفوية حقيقية وفرضت ذاتها، منادية جميع المسؤولين الوطنيين الحقيقيين والمستفيدين من النظام الحالي إلى إلغاء الطائفيّة السياسية فورًا وليس تدريجيًا كونها قد ألغيت من نفوس الشعب الذي شارك في الحراك وصدحت بها حناجرهم وبعض الغير مشاركين، للبدء بديناميكية إلغائها من نصوص الدولة بغية تحقيق المواطنة الحقيقية وبغية أن تلغي المؤقت إلغاءًا نهائيًا.

لقد أثبت جزء كبير جداً من الشعب اللبناني أن الطائفيّة قد توارت من النفوس، وأعطى جميع المسؤولين اللبنانيين بكلّ طوائفهم ومذاهبهم الإشارة المؤكدة لذلك، ناسفًا الحجج التي لطالما اعتمدها الكثيرون لعدم إلغاء الطائفيّة من النصوص -تدعمها حجج بعض رؤساء الطوائف الروحيين، لما لهم من حسابات مختلفة في هذا المجال- فقد أتى هذا الحراك لينسف هذه الحجج ولسان حاله يقول نريد أن نكون مواطنين ولاؤنا الوحيد لوطننا لبنان وليس لزعامات ورؤساء طوائف. أتى ليقول لجميعنا اليوم هذه فرصتنا قد تحقّقت ولطالما انتظرناها. فهل سيقر هذا المشروع التاريخي بتعديل النصوص وإلغاء التمثيل الطائفي السياسي؟

وهل آن الاوان لانتخاب مجلس نيابي على أساس قانون انتخابي نسبي غير طائفي، قانون يحترم حقوق اللبنانيين كلّ اللبنانيين بالتمثيل اللاطائفي في المجلس النيابي، مع حفظ حقوق الطوائف بمجلس الشيوخ كما نصّت المادة 22 من الدستور. ويحترم وجود كوتا لا تقل عن ٣٠ بالمئة من المقاعد للنساء بصورة مؤقتة وكتدبير تمييز إيجابي مؤقت لتفعيل المشاركة السياسية للمرأة.

كل الإشارات تدل أن لبنان التقاطعات السياسية المحلية والإقليمية والدولية قد مات ليولد طائر الفينيق وينتفض من تحت الرماد مجددًا لإعادة لبنان إلى موقعه كرسالة حضارية عالمية. 

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024