نصر الله في "حوار العام".. التوقيت المكشوف

بتول خليل

الأحد 2019/01/27

نجحت "الميادين" بتحويل لقائها التلفزيوني الأخير مع أمين عام "حزب الله"، السيد حسن نصر الله، إلى مادة دعائية بامتياز، بعدما حشدت القناة في الأيام الأخيرة كل طاقاتها عبر شاشتها وفي الفضاء الالكتروني، لمحاولة تكريس المقابلة مع نصر الله كما لو أنها حدث استثنائي جلل، كونها تأتي بعد صمت وانكفاء إعلامي دام 3 أشهر، وتُشّكل فرصة لدحض الشائعات والتكهنات حول أسباب هذا الغياب، على منبرها وعبر شاشتها.

المقابلة التي أطلقت عليها القناة "حوار العام"، اندرجت منذ لحظات بدايتها في إطار السعي الإعلامي الهادف لإخراج نصر الله من موقع التبعية والتعمية الذي لازمه كـ"جندي في ولاية الفقيه"، والتركيز على تقديمه كقطبٍ وصانع قرار مستقل له كينونته الخاصة، وذلك من خلال استهلال الإعلامي غسان بن جدو مقدّمة اللقاء بالإشارة إلى الاتهامات الموجهّة لنصر الله بأنه "مَقُوّد لا قائد"، وأنّ "حزبه هشّ رغم ظاهره الحديدي، وجماهيره مضللة ومغلوب على أمرها بحكم التكليف الشرعي"، متسائلاً: "إذا كان الأمر كذلك، لماذا كل هذه الحروب المعلنة والخفية، السياسية والأمنية، الإعلامية والإعلانية على شخصٍ هو في الأوهام ليس قائداً؟ "، و"لماذا كل هذه العقوبات على حزب هو في الايهام لا شيء؟".

القناة المنضوية تحت جناح محور الممانعة والناطقة باسمه والمروجة لسياساته، بدت رسائلها واضحة منذ إطلاقها البرومو الترويجي للمقابلة، مروراً بالحملة الدعائية التي قادتها في مواقع التواصل تحت عنوان "نصر الله يكسر الصمت"، وصولاً إلى الحوار الذي أجرته، مساء السبت، مباشرة على الهواء، والذي قدّمته على أنه سيشكّل مساحة مهمة توضيحاً وشرحاً وموقفاً ومعلومة ورسالة، كما أرادت له أن يُشكّل "صدمة لكل من شكك وروّح الأكاذيب وتلذذ بأذية كريهة في اختلاق أخبار زائفة، طالت حزب الله من جهة والوضع الصحي للسيد نصر الله من جهة أخرى".

الأسباب التي ساقتها "الميادين" لتبرير خروج المقابلة بهذا التوقيت، بدت هزيلة أمام قوة واقع يشير إلى مسعى مكشوف من الإخراج الإعلامي يهدف للتعمية على دوافع ومسوغات أخرى. فالقناة التي استكملت، من خلال الضخّ الدعائي الهائل الذي استبق موعد المقابلة ورافق انطلاقتها، كافة أشكال البروباغندا، أرادت دحض الشكوك بأن يكون كل ما هو مرتبط بهذه المقابلة منسّق سلفاً، في حين أننا لم نفهم كيف من الممكن أن يُطلق على هذا الحوار "حوار العام"، وهو لم يزل في الشهر الأول من السنة، والتي ما يزال أمامها أشهر طويلة من الممكن أن يتخللها لقاءات وحوارات قد تكون لها أهمية أكبر، إن كان مع الضيف نفسه أو مع ضيوف آخرين حول أحداث يخبئها المستقبل.

هل أتت التسمية فقط لأن نصرالله قرر أن يخرج عن صمته، وأوضح خلال اللقاء بأنه أتى لعدم وجود مناسبة أو حدثٍ يستحق إطلالته عبر الإعلام؟ أم اعتبرت "الميادين" أنه "حوار العام" فقط لأن مجرد إطلالة ضيفها يُعتبر نفياً لما جاء في الإشاعات والأخبار الكاذبة، التي روجت لوفاته أو مرضه؟ وما هو الجديد أساساً في خروج نصر الله عبر "الميادين" تحديداً التي سبق أن حاورته أكثر من مرة، خلال ظروف اعتبرتها أيضاً مصيرية في وقتها؟ في حين كان يمكن للمقابلة ان تقدم كحدث اسثنائي لو أن نصر الله اختار إجراء اللقاء مع وسيلة إعلامية لا تنتمي للخط السياسي الذي يتبعه. ساعتئذٍ، يمكن اعتبار المقابلة وتقديمها على أنها عمل صحافي مهني من الدرجة الأولى، ما يؤهّل مقدّم الحلقة والقناة أن تقف على مسافة متوازنة، وأن ينعكس موقفها من خلال الأسئلة وأسلوب طرحها، بغية استطلاع آراء نصر الله ومواقفه من جملة الأحداث الراهنة، وحتماً لن تكون كما فعلت "الميادين"، التي حوّلت الحوار فرصة لتبجيل كل ما ينطق به ضيفها، وتعظيم إنجازاته وتفخيم مكانته لا بل تقديسها.

"حزب الله" الذي دأب دائماً على اختيار اللحظة السياسية المناسبة له لإطلاق تصريحاته أو خطاباته أو تحرّكات وخطوات معينة، لم يشذّ قائده في هذه المقابلة عن هذا السياق لناحية الشكل أو المضمون، إذ أنه كان من المستغرب، وبصرف النظر عن أي حجة مهما علا شأنها، أن لا يصدر تعليق أو تصريح من الحزب وعلى لسان أمينه العام بالتحديد، بعد سلسلة الأحداث الامنية والسياسية التي عصفت في لبنان، بدءاً من حدوده مروراً بداخله، وصولاً للتطورات الإقليمية. لذا فإنّ التفسير الوحيد لهذا الغياب عن الإعلام من قبل نصر الله، يتعلق بكون التوقيت الامني والسياسي لم يكن لصالحه أو مناسباً لإطلالته، ما يدحض كل الروايات التي روّج لها البعض، والتي تحججت بالتروّي تارة وعدم وجود ما يستأهل التعليق عليه تارة أخرى؟ فهل أصبح التروي والصمت يتزامن فقط مع انحشار الحزب بظروف لا تلائمه؟ وهل كل الضربات الإسرائيلية المكثفة التي شنّت ضدّه في سوريا، لم تحفّزه على الرد، ولو إعلامياً، فاكتفى بالصمت؟!

تاريخ خطابات وتصريحات نصر الله، المتعلقة بصراعاته مع إسرائيل، يشهد أن الرجل يعي تماماً مدى أهمية وقوة اختيار اللحظة المناسبة للإطلالة والكلام، والذي طالما استهدف التأثير على جمهوره وقاعدته الشعبية، قبل أن تستهدف إطلاق رسائله باتجاه العدو، مثلما فعل في بداية حرب تموز 2006، حين اختار التزام الصمت، في الوقت الذي كان الناس ينتظرون ظهوره ليخاطبهم. لكنه ورغم الامتعاض والغضب الذي ملأ الأجواء حينها، وعبّر عنه كثرٌ من أهالي الضاحية والجنوب، جراء القصف والتهجير وآثار الحرب التي ألمّت بهم، لم يخاطبهم نصر الله إلا في لحظة توقيت ضرب البارجة الإسرائيلية "ساعر 5"، بغية استثمار ظهوره وتحويل اللحظة إلى شكلّ من اشكال الانتصار، الذي طالما كانت سياسة الحزب ومحور الممانعة، السعي لتحويل أي مواجهة أو حدث إلى شكلٍ من أشكال  الانتصار، حتى ولو كان يتخذ شكل الهزيمة المروّعة.

ما شهدناه بالأمس، كان السير على المنوال نفسه. فنصر الله من خلال تركيزه على موضوع الأنفاق، وشرحه لأدقّ التفاصيل التي حاول تحويلها إلى انتصارات متلاحقة، مرّ في المقابل مرور الكرام على كل الضربات التي تعرض إليها الحزب ومحور الممانعة في سوريا، ولم يركّز على الخسائر البشرية منها والمعنوية، ولم يوضح بشكل حاسم المسار الذي سوف تتخذه المواجهة في المستقبل في حال تكرار مثل هذه الضربات، بل جلّ ما استطاع قوله، هو كلام يشبه ما عودنا عليه النظام السوري من التلطي وراء الرد في التوقيت المناسب أو التحجج بعدم الانسياق وراء لعبة تغيير قواعد الاشتباك.

لن تكون المرة الأخيرة التي سيطلّ علينا فيها السيد ليقنعنا بأن اكتشاف الأنفاق وتدميرها، هي خدمة أسداها له نتنياهو، رغم كل ما تكبدّه الحزب من جهد ووقت ومال في حفرها. كما أنه من المتوقع إطلاق المزيد من محاولات إقناعنا بأنّ كلّ شحنات الأسلحة ومخازنها، التي دمرتها إسرائيل في سوريا، لا تعدو شيئاً بالمقارنة مع العتاد والسلاح النوعي الذي أصبح في أيدي الحزب في لبنان. ونحن كمواطنين طائعين لا يحق لنا الإطلاع على أي تفاصيل أخرى طالما أن التركيز هو على الانتصار العظيم الذي حصل في سوريا، في اللحظة التي يتم فيها التغييب بالكامل لاي حديث عن الدمار الهائل والماحق الذي حلّ بسوريا، وتعداد الخسائر العسكرية والمدنية، والمأساة التي ألمّت بالشعب السوري، الذي لا يبدو أنّ كل ما حلّ به له أي قيمة، طالما أن حليف إيران الأول ما زال قابعاً سالماً في قصر المهاجرين.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024