"المؤامرة" التي كشفتها الممانعة في تمويل الإعلام السوري المعارض!

وليد بركسية

الثلاثاء 2020/10/06
تبدو صفحات إعلاميي النظام السوري ووسائل إعلام محور الممانعة، وكأنها حققت كشفاً تاريخياً عند حديثها عن المستندات المقرصنة من وزارة الخارجية البريطانية، التي تتحدث عن تمويل وسائل إعلام سورية، ومنصات بديلة للتعبير الحر في البلاد التي قمعت طوال عقود بفعل الحكم الديكتاتوري والقبضة الأمنية وسياسة الترهيب. إلا أن ذلك "الفتح المبين" هزيل في كل ما يقدمه، حتى في التحليل التابع له، والأقرب إلى نظرية مؤامرة من الدرجة الثانية، تتكرر فيها حكاية المؤامرة الكونية التي حاولت خلق الوهم بوجود ثورة شعبية في البلاد من أجل "تقويض الدولة السورية" و"زعزعة استقرار المنطقة".


هُزال الطرح يعود ربما إلى سبب أساس، وهو أن مشاريع تمويل الإعلام في البلاد لم تكن سرية. فكثير من مؤسسات الإعلام البديل تلقى دعماً لاستمرار جهوده، خصوصاً في المرحلة اللاحقة التي خرج فيها الناشطون والإعلاميون من سوريا نحو دول اللجوء، وحاولوا الحفاظ على مشاريعهم الصغيرة على قيد الحياة، بعدما كانت مشاريع محلية بسيطة تنقل الوقائع اليومية في المدن والبلدات التي تخرج فيها المظاهرات المطالبة بالتغيير السياسي وتقمع بالقوة العسكرية.

ويمكن حتى اليوم تتبع سلسلة الجهات الراعية للإعلام السوري المعارض في المواقع الإلكترونية والإذاعات التي مازالت نشطة، حيث يتم تفصيل تلك الجهات بوضوح وعلانية. وإن كان التمويل الخارجي لم يؤثر كثيراً في هوية الإعلام السوري، لأن غالبية وسائل الإعلام المعارضة كانت موجودة وسابقة على التمويل أصلاً، وأتى تمويلها بسبب ترويجها للديموقراطية بالدرجة الأولى، فإن كثيراً من تلك الوسائل لم يستمر بسبب انقطاع التمويل في السنوات الأخيرة، وعدم قدرة تلك الوسائل على الصمود في عالم اقتصادي صعب.

ومع التسليم بأن التمويل عصب العمل الإعلامي المعاصر، حتى في الدول الغربية حيث تعاني المؤسسات الإعلامية مشاكل اقتصادية في عصر السوشيال ميديا، وتحديداً في دول الشرق الأوسط حيث تنشط الدعاية الأجنبية والإعلام الوكيل لدول إقليمية، فإن السؤال يتمحور دائماً حول دور التمويل وغايته ربما. ويعني ذلك أن الدول الغربية تخصص في ميزانيات وزارات الخارجية فيها، برامج لدعم الديموقراطية وتعزيز حقوق الإنسان في العالم، وهي غاية نبيلة قطعاً من أجل دعم تطلعات الشعوب التي تعيش في دول شمولية لمزيد من الحريات وحقوق الإنسان، تسعى من خلالها إلى توفير توازن إعلامي ضروري في المنطقة التي ترعى فيها السلطات المحلية برامج إعلامية سامّة، تنشر عبرها البروباغندا والأخبار الزائفة.

على سبيل المثال، لا تقوم الأصوات الممانعة بعقد مقارنات واجبة بين نماذج تمويل الإعلام في المنطقة، ما يخلق سياقاً ناقصاً ومضللاً بالضرورة، وليس من المستغرب بالتالي أن يتم التعتيم على أخبار ذات صلة مثل التحقيق الصحافي الذي قامت به صحيفة "دايلي تيلغراف" في آب/أغسطس الماضي، وكشفت فيه كيف درَّب حزب الله "جيشاً إلكترونياً" يضم آلاف الناشطين في وسائل التواصل الاجتماعي، في عدد من دول المنطقة منذ العام 2012، أي قبل التواريخ التي تذكرها الوثائق البريطانية المقرصنة، والتي تتحدث عن إطلاق برامج لتمويل الإعلام المستقل في سوريا منذ العام 2014. علماً أن الفارق بين الجانبين شاسع، فبينما كانت برامج التمويل الغربية تركز على قيم الصحافة والإعلام الحر والتعدد والديموقراطية ومحاربة التطرف والأخبار الكاذبة، فإن البرامج المضادة ركزت على تدريب "مجندين" في بيروت على إنشاء الحسابات المزيفة في مواقع التواصل الاجتماعي وكيفية خلق الأخبار الكاذبة ونشر المعلومات المضللة والموجّهة عبر الإنترنت.

وفي سوريا نفسها، عملت إيران على تمويل مشروع إعلامي متكامل تأسس العام 2012 بجهود قام بها وزير الإعلام السوري السابق عمران الزعبي الذي نظم مؤتمراً انبثقت عنه ورشات عمل، من أجل تأهيل صحافيين سوريين ومراسلين ميدانيين تابعين للنظام، وتم اختيارهم حينها من كافة المحافظات السورية باستثناء الرقة، لانتمائهم لحزب البعث واتحاد الطلبة، ومن بينهم وسام الطير الذي أسس في فترة من الفترات واحدة من أكبر الشبكات الإعلامية الموالية للنظام "دمشق الآن"، وتم حينها أيضاً إرسال حوالي 100 شخص إلى إيران للمشاركة في ورشات تدريبية، في أول دفعة بالتوازي مع التدريب في أماكن أخرى مثل بيروت.

وهكذا، فإن "انتقادات" محور الممانعة لتمويل الإعلام المستقل، ترتبط بصفته اللاحقة كتمويل "غربي"، ويحرص الممانعون على تقديم جزء واحد من الحقيقة من دون التطرق للتمويل الموازي لمنصات الإعلام الممانع نفسها. ويعتبر ذلك جهداً دعائياً بحتاً لأنه يجتزئ الحقائق ما يجعله فاقداً للمعنى ومناقضاً لمعنى الإعلام الحر الذي يفترض أن يتعامل مع القضايا بحيادية. وفي حالة الأخبار المتعلقة بالتمويل الغربي للإعلام تحديداً، نشرت صحف ووسائل إعلام سورية معارضة تقارير عن مشكلة التمويل وملفات وزارة الخارجية البريطانية المقرصنة، وطرحت أسئلة حيوية حول علاقة الإعلام بالممولين والجهات الداعمة، ولم تقم بالتعتيم على القضية من زاوية أنها قد تسيء لصورتها بشكل أو بآخر للجمهور، وهو أمر يستحق الإشادة فعلاً.

على أن ذلك القصور ليس مفاجئاً بل هو أمر متكرر، ويمكن رؤيته مؤخراً في لبنان بعد تصريحات وكيل وزارة الخارجية الأميركية دايفيد هيل الشهر الماضي، التي ذكر فيها تقديم الولايات المتحدة مبلغ 10 مليارات دولار للقوى الأمنية اللبنانية ومنظمات المجتمع المدني المحلية، لتقفز الأصوات الممانعة إلى اتهامات العمالة والتخوين لكافة المعارضين والثوار في البلاد، بالطريقة نفسها التي تتم بها شيطنة المعارضين في سوريا.

وفي الحالة السورية، يتم الحديث تحديداً عن تجربة صحيفة "عنب بلدي" المعارضة بوصفها نموذجاً للمؤامرة الغربية. لكن هذه الصحيفة الأسبوعية بالتحديد، التي انطلقت كنشرة بسيطة في مدينة داريا، أصبحت لاحقاً واحدة من مصادر المعلومات الموثوقة في البلاد، وهي واحدة من ثلاثة مواقع معارِضة تحظى بثقة "غوغل نيوز" التي تفهرس عشرات الآلاف من المواقع العالمية من أجل نيل أولوية الظهور لدى البحث بالكلمات المفتاحية الأكثر تداولاً في الإعلام، بما في ذلك الحدث السوري نفسه، حسبما أظهرت دراسة نشرت العام 2016. ولا يعود ذلك بالطبع إلى أنها "غربية التمويل" بل لأنها تقدم محتوى موثوقاً.

وبعد انطلاقة الثورة السورية العام 2011، اعتبر النظام الثورة "فبركة إعلامية" وطرد مراسلي وسائل الإعلام العربية والأجنبية تباعاً بتهمة "التحريض"، واعتمد على "الإعلام المقاوم" لإيصال وجهة نظره عن الأحداث في البلاد. علماً أنه عمد منذ العام 2016 إلى توجيه الدعوات للصحافة الغربية من أجل زيارة سوريا والاطلاع على "حقيقتها"، وذلك عبر لقاءات وجولات ميدانية معدة مسبقاً تضمن بعضها مقابلات مع رئيس النظام بشار الأسد نفسه.

والحال أن عدد وسائل الإعلام السورية بعد الثورة زاد عن 600 في فترة من الفترات، إلا أن معظم تلك الوسائل توقف عن العمل لأسباب تتعلق بالجوانب المادية بالدرجة الأولى. حيث كانت تلك المشاريع التي أشرف عليها ناشطون محليون، رد فعل طبيعياً على عقود من قمع حرية التعبير وتدجين الإعلام في سوريا الأسد. كما كانت الطريقة الوحيدة لبث ما يجري في سوريا من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، للعالم.

وإن كان النظام السوري، مثل بقية الديكتاتوريات في المنطقة، يحارب المنظمات غير الحكومية وناشطي المجتمع المدني، بوصفهم خطراً عليه، فإن النظام يقدم مؤسسات "مدنية" تابعه له لاحتكار الدعم الغربي نفسه الذي يزعم محاربته، وتبرز هنا "الأمانة السورية للتنمية" التي تشرف عليها أسماء الأسد شخصياً. كما يلجأ النظام لمنظمات غربية مدعومة من روسيا بالإضافة إلى شبكة الصحافيين الذين يتلقون تمويلاً مباشراً من الكرملين، والذين دربوا بدورهم صحافيين وناشطين موالين، خلقوا حالة من التنافس مع الأصوات المحسوبة على إيران.

ومن المراسلين الذين يرحب النظام بهم على هذا الأساس، الناشطة الكندية إيفا بارتليت، والناشط الفرنسي بيار لوكورف المرتبط بجمعيات اليمين المتطرف في فرنسا، بالإضافة إلى لناشطة البريطانية فانيسا بيلي، التي قالت لصحيفة "الوطن" شبه الرسمية العام الماضي: "إن دورنا كمراسلين حربيين مستقلين أو صحافيين استقصائيين هو كشف الأكاذيب التي تنتجها وسائل الإعلام الغربية" زاعمة أن "وسائل الإعلام الغربية تدعم الحرب وتمنع الحل السلمي للقضايا الداخلية السورية"، مطالبة المراسلين "تقديم تقارير تستند إلى الحقائق"، ومعارضة تلك التقارير المقدمة حالياً من وسائل الإعلام الغربية، في تكرار لخطاب النظام الدبلوماسي.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024