سأترك لك الباب مفتوحاً

إيناس عزي

الخميس 2020/11/19
لا نجوم هذه الليلة، معظم الناس نيام، شاحنة نقل كبيرة تتدحرج عجلاتها على الطريق المنحدرة ويملأ صخبها الفراغ، وما إن يمتصها الظلام بأضوائها الحمراء الكثيرة ويختفي صوتها تماماً، حتى لا يبقى سوى بضعة مصابيح متفرقة، صامتة وبعيدة.

تلتمع نقطتان في الظلام، لم أنتبه أنك تراقبني صامتاً، تنتظر انتهائي من البكاء من دون أن تتحرك، ثم تحاول إلهائي بحركات مضحكة مثل رجل استعراض صغير.

منذ تلك الليلة التي وافقت فيها مرغمة، أمام نظرات التوسل والاستجداء في عيني ابني، على مجيئك معنا، منذ تلك الليلة وأنت بطل أحاديثنا، أطفالي وأنا، أسئلتهم أفكارهم، وحكاياتهم.
عجيبة تلك الطمأنينة وذلك الشعور بالرضا الذي يمنحه لمسك، مداعبتك، وكل ذلك التفكير والقلق، والأسئلة التي تبقى بلا أجوبة، كُل ذلك يهدأ يستقر وينسحب إلى مكان ما، عميق جداً ويتركنا آمنين.

تلك اللحظة التي اقترب فيها نيتشه من الحصان، عانقه وبكى، انكمش "الإنسان الأعلى" ليعود إلى حجمه، إلى ضعفه، ورُبما إلى لحظة أكثر حقيقية من كل ما كتبه وفكّر فيه.

تدور، تقفز، تنقلب على ظهرك، تجلس مثل نمر صغير، تتمطط، تنام ساعات طويلة مثل طفل، تُبكيني وتُضحكني، أنا التي لم ألمس نوعك يوماً. وكلما راقبت ابني وهو يلاعبك، أتذكر طفولة أخي الصغير وشغفه بالحيوانات الذي لم ينته إلى الآن، أتذكره وهو يُطعم القطط الشاردة، ويبكي لأيام من أجل أرنب صغير.

صرت أسبق أولادي لأضع لك الطعام والماء، وأُداعب جسدك الصغير. أنا أيضاً صرت مثلهم، أُمضي وقتاً طويلاً في البحث عن فيديوهات ومعلومات تتعلق بكَ، وتظل أسئلتهم تتردد في رأسي: لماذا لا نُدخله إلى بيتنا؟

في الديانة الجاينية، وهي اليوم طائفة صغيرة من الهندوس، كلمة "الأهيسما" لا تعني فقط اللاعنف بمعناه المجرد، بل احترام وتبجيل الكائنات الحية كافة. الأدفنتست السبتيون أيضاً يبجلون الكائنات الحية، ويفضلون الابتعاد عن لعق الدماء كما يقول بيتاغوراس.

تتحرك أذناك الحساستان أحياناً مع صوت رصاص يخترق صمت الأيام الثقيلة، ربما تلك بندقية صياد صغير لم يتجاوز الثالثة عشرة من عمره، والجيب الجلدي المعلق على دراجته النارية مليء بجثث عصافير صغيرة للغاية. وربما هو إعلان زفاف، أو خلاف على غنيمة ما. لم تعد هناك خطوط واضحة للشرح، فالرصاصة صارت لغة للتفاهم أو للحديث، للإيحاء أو للمجاز وربما للإيجاز.

"أتركيه يذهب فهو مجرد هرّ برّي، الشارع مكانه الطبيعي"، تخاطبني إحداهن بلهجة تحمل صيغة تواطؤ غير معلن. لن نستبدلك بأغلى أنوع القطط، أقولها في سرّي، وأهز رأسي متجاهلة الإجابة، وأنا أتذكر اصفرار وجه ابني ودموعه حين ظنّ أنك هربت وأنت لم تفعل.
لم تعد مثل ذلك العصفور الذي حط للحظات جميلة على حافة النافذة، ثم اختفى بلا أثر عاطفي. صار بيننا رابط لا يمكن تجاهله أو نسيانه.

"الامتحان الأخلاقي للإنسانية هو في تلك العلاقات التي تقيمها مع من هم تحت رحمتها، أي الحيوانات"، ويُكمل كونديرا: "هنا بالذات يكمن الإخفاق الجوهري للإنسان".

أرسم خطوطاً على زجاج الباب الذي يفصلنا، تتبعها بعينيك المشتعلتين، ثم تبحث بإصرار عن مكان للدخول. تُلاحق أقدام أطفالي، تَنام في حضن ابني آمناً، تمنحهم الثقة والطمأنينة التي يسلبها البشر. وتُصبح حاضراً في أحلامهم وأحلامي.

يبتسم الطبيب البيطري لسؤالي ويجيب: القطط لا تنقل الأمراض للبشر.
وحدهم البشر من يفعل ذلك. وحدهم يخونون ويخدعون ويؤذون، ووحدهم يشوهون هذا العالم.
صرنا نعود إلى المنزل باكراً، فهناك من ينتظر قدومنا، مستلقياً على حافة الشرفة، وناطقاً بين كلمات موراكامي.

تتحرك الأوراق الصفراء المتساقطة على الأرض وكأن أحدهم يكنسها بقوة، عيناك الخضراون مُسلطتان عليّ، بكاء طفل رضيع ينفذ حاداً في الهواء البارد، رائحة شتاء. مزيد من الشجاعة، لأتجاهل هوسي بالنظافة والتنظيم، وقليل من الوقت، هما كل ما أحتاجه لأترك لك الباب مفتوحاً.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024