"كينيدي فرنسا".. شاغل الناس بالتواضع والفضائح

حسن مراد

الجمعة 2020/12/04
طوال سنوات حكمه السبع، تملك الرئيس الفرنسي الراحل فاليري جيسكار ديستان، أو اختصاراً جيسكار، هاجس واحد: أراد استمالة الفرنسيين وكسب حبهم. من أجل هذه الغاية، اعتنى بصورته الإعلامية على نحو كبير.
وجيسكار، هو ثالث رئيس عرفته الجمهورية الفرنسية الخامسة، فارق الحياة ليل الاربعاء، عن 94 عاماً، متأثراً بمضاعفات فيروس كورونا. 

 في العام 1974 خاض جيسكار السباق الرئاسي مقدماً نفسه بصورة المرشح الحداثي الساعي إلى إحداث قطيعة مع النهج الديغولي. كان لا يزال في الـ48 من عمره حين دخل الحلبة بصورة الشاب المفعم بالحيوية وبروح التجديد السياسي، متماثلاً بشخصية ونهج جون كينيدي.                                                                                  
اتخاذه من كينيدي نموذجاً، لم يترجم فقط بالوعود الانتخابية الحداثية، بل انسحب أيضا على الصعيد الدعائي. فالملصق الرسمي الذي اعتمده شكل صدمة إيجابية في الشارع الفرنسي بعدما ظهرت ابنته إلى جانبه في دلالة على مشروعه الحداثي وتطلعه إلى المستقبل. ما زال هذا الملصق سابقة في مجال الدعاية الانتخابية الفرنسية شكلاً ومضموناً، بمعنى عدم ظهور المرشح بمفرده في الملصق، كما الرسالة السياسية التي تضمنها.

في ذلك العام تقرر إجراء أول مناظرة تلفزيونية في تاريخ الانتخابات الرئاسية الفرنسية. مناظرة جمعت جيسكار، ومرشح الحزب الاشتراكي فرنسوا ميتران. خلال المناظرة، اعتبر ميتران أن أصول جيسكار البرجوازية لا تؤهله لأن يتفهم الظروف الحياتية التي يرزح تحتها الفرنسيون، فرد عليه الأخير "ليس من حقك ادعاء احتكار الشعور الإنساني ورقّة القلب. قلبي ينبض مثل قلبك، لا تخاطب الفرنسيين بهذا الأسلوب الجارح". 


تنبأ جيسكار باستراتيجية ميتران، فاستعد لها مسبقاً شاهراً سلاحه في الوقت المناسب. يرجح خبراء الإعلام أن تكون هذه الجملة بمثابة الضربة القاضية التي حسمت السباق الرئاسي نظراً للفارق الضئيل بينهما: 50.81% لجيسكار مقابل 49.19% لميتران.

ثم عاد جيسكار وأحرز هدفاً آخر في شباك ميتران حين توجه إليه بالقول: "ما صدمني أنك رجل ينتمي إلى الماضي. أردت أن نناقش مستقبل فرنسا، أردت ذلك ثلاث مرات، إلا أنك كنت تواجهني باستحضار الماضي من دون تقديم حلول. من الواضح أن مستقبل البلاد لا يعنيك ما لا يؤهلك لأن تقودها على نحو سليم، بخلافي أنا الذي لا يتطلع إلا للمستقبل".


وكما درجت العادة، توجه جيسكار بكلمة إلى الفرنسيين عقب فوزه، إلا أنه وعلى نحو مفاجئ عاد وألقى خطابه بالإنكليزية. ورغم انكليزيته الركيكة، فقد اعتُبر الخطاب إشارة قوية إلى روح الحداثة التي ينوي ضخها في الحياة السياسية.


ويبقى حفل تنصيبه الشاهد الأبرز على كسره للتقاليد السياسية السائدة: عوضاً عن السيارة الرئاسية، دخل قصر الإليزيه سيراً على قدميه وسط ترحيب المحتشدين في الخارج وهتافاتهم المؤيدة، كما رفض ارتداء وسام جوقة الشرف واكتفى باستلامه. حتى الصورة الرسمية التي اتخذها اتسمت بالبساطة وخلت من مظاهر الأبهة والفخامة التي يفرضها منصب الرئاسة.

نجاحه الإعلامي منقطع النظير خلال الحملة الرئاسية، قابله فشل في قطف ثمار استراتيجيته الإعلامية خلال ولايته الرئاسية، فارتدّت عليه سلباً أو ظلت محط جدل ولم تحظَ دوماً باستحسان الرأي العام. 


على سبيل المثال، كل شهرين كان جيسكار يحل ضيفاً على العشاء لدى إحدى العائلات حتى يكسر الصورة النمطية للسياسي البعيد عن الهموم الحياتية. فأصوله البرجوازية مثلت نقطة ضعف ما انفك معارضوه يصوبون عليها. إلا أن خصومه لم يلحظوا أي تقارب بين الرئيس والفرنسيين، ففريق عمل جيسكار كان يختار بعناية العائلات التي يتوجب عليه تلبية دعواتها حتى لا يجد نفسه في "بيئة معادية"، ما سهل الترويج أن الرئيس يرغب برؤية الواقع كما يحلو له وليس كما هو. 

حادثة أخرى انقلب فيها "السحر على الساحر". ففي صباح الـ 24 من كانون الأول/ديسمبر 1974، أي قبل يوم من عيد الميلاد، دعا جيسكار عمال النظافة المتواجدين في جادة الشانزليزيه، الى تناول وجبة الإفطار معه. لكن الصحافيين لمسوا أن العمال شعروا بالإهانة حتى لو لم يعبروا عن ذلك صراحة. فقد تمت دعوتهم إلى القصر الرئاسي الفخم وجالسوا الرئيس فيما هم بثياب العمل المتسخة أي أنهم لم يكونوا أكثر من أداة لغايات الرئيس الدعائية. 

في العام التالي، لمعت في رأس جيسكار فكرة جديدة: درجت العادة أن يتوجه رئيس الجمهورية، نهاية العام، برسالة متلفزة للفرنسيين بمناسبة السنة الجديدة. طلب من زوجته مشاركته تلك الإطلالة التلفزيونية، أراد أن يُشعِر الفرنسيين أن من يخاطبهم هو فاليري جيسكار ديستان وليس رئيس الجمهورية. لكن ملامح الارتباك والتشنج ظهرت بوضوح على وجه السيدة الأولى، كما كانت تتصنع الابتسامة وبدا واضحاً أن كلماتها خالية من العفوية، فعاد بذلك جيسكار إلى المربع الأول: هو رئيس يصطنع البساطة والتقرب من الفرنسيين. 


وتبقى قضية الألماسات التي أهداها الإمبراطور بوكاسا، لجيسكار، الحدث الأبرز الذي هز صورته الرئاسية. فبعد إطاحة نظام جان بيدل بوكاسا، في إفريقيا الوسطى العام 1979، تسربت إلى الصحف الفرنسية وثيقة تفيد بأن بوكاسا أهدى جيسكار في العام 1973 (إبان تولي الأخير وزارة المالية) مجموعة من الألماسات قدرت قيمتها بمليون فرنك فرنسي. لكن الرئيس الفرنسي دافع عن نفسه مؤكداً أن قيمتها الفعلية كانت 30 ألف فرنك، مضيفاً أنها ليست ذات جودة عالية. 

استغل معارضوه هذه الفرصة للهجوم عليه، وما زاد الطين بلة لجوء جيسكار الى أسوأ استراتيجية إعلامية: التجاهل التام. ظن بذلك أن الفضيحة ستموت في مهدها، لم يدرك أن للمسألة رمزية تتعدى الجدل حول القيمة الفعلية للألماسات. لم يقدم للرأي العام الإيضاحات اللازمة، ففُسِرَ صمته كدليل إدانة ما جعل الأبواب مشرعة على مزيد من التأويلات والمزايدات.

رغم انجاز جيسكار لعدد من وعوده الانتخابية بالتجديد والحداثة (تشريع الإجهاض، خفض سن الاقتراع إلى 18 عاماً ...) إلا أن الركود الاقتصادي جعل حملته الرئاسية عام 1981 أكثر تعقيدا. 

في ذلك العام ارتدى ميتران ثوب الإصلاح والتجديد. عوضاً عن "كينيدي فرنسا"، قدم المرشح الاشتراكي نفسه بصورة روزفلت واعداً بـ"New Deal فرنسي". واستخلص ميتران الدروس من اخفاقاته الإعلامية العام 1974 فتصالح مع الشاشة وبات نداً لجيسكار، فكان هو من طبع المناظرة التلفزيونية.


خلال تلك المناظرة، خاطب جيسكار منافسه الاشتراكي بعنجهية وفوقية، فانتفض ميتران بوجهه قائلاً "أرفض أسلوبك هذا، أنت خصمي ولست رئيس الجمهورية". وأتبعها بجملة أخرى انتقم فيها ميتران لنفسه. فحين سرد المرشح الاشتراكي وعود جيسكار التي لم تتحقق طلب منه الأخير ألا يدخل في لعبة نبش الماضي، فرد عليه ميتران، وأمارات السخرية بادية على وجهه: "أتفهم عدم رغبتك في الحديث عن الماضي تجنباً لإضعاف موقفك، لا بل أراك تحاول استعادة معزوفة رجل الماضي. من الممل أن أجد نفسي بعد سبع سنوات في مواجهة الرجل البليد".

خسر جيسكار الانتخابات، ومثلما طبع يوم انتخابه بخطاب لافت باللغة الإنكليزية، ما زال خطاب الوداع راسخاً في الأذهان لاسيما اختياره خلفية ذات ألوان قاتمة. لكن اللحظة الأقوى التي تخللها ذلك الخطاب كان خروجه عن إطار الشاشة ليُعزف النشيد الوطني الفرنسي في ما بقي كرسيه فارغاً. خطوة فسرها البعض كرسالة تحذير للفرنسيين من الخطر الذي يتهددهم بعد وصول الاشتراكيين إلى الحكم، ولو أن جيسكار صرح لاحقا بأنه ارتجل هذا الخروج دون أي تخطيط مسبق. 

وكما دخل الإليزيه سيراً على قدميه، أصرّ على مغادرته بالطريقة نفسها حتى لا يظهر في صورة المهزوم الخائف من مواجهة الفرنسيين المحتشدين خارجاً والذين لاقوه هذه المرة بالسخط والصراخ على عكس هتافات التأييد قبل سبع سنوات. 

الصورة التي أرساها جيسكار في بداية عهده كانت على النقيض من الصورة التي سلم بها مقاليد الحكم: فما بين خطاب الفوز وخطاب الوداع، مناظرة 1974 ومناظرة 1981، دخول الإليزيه والخروج منه، هي حكاية فاليري جيسكار ديستان الذي اختبر سلاحاً ذو حدين، فذاق حلاوته ومرارته: الإعلام والدعاية. 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024