من حراك النفايات إلى "صار الوقت": الناشط كمراهق سمج

أيمن الزعتري

الإثنين 2019/02/11
بعد تأجيلات وظهورات متفرقة لمارسيل غانم في شاشة "أم تي في"، انطلق برنامج "صار الوقت" في حملة إعلامية وإعلانية مهيبة بشَّرَت المنتظرين بمقاربة جديدة للبرامج السياسية.
وإذ حوفظ على المقدمة الموسيقية المشهورة لبرنامج غانم السابق "كلام الناس" والذي استمر على شاشة "أل بي سي" أكثر من عشرين عامًا، أعيد توزيع الموسيقى لتواكب الانطلاقة الجديدة. وتغيَّر العنوان السابق، ليبدو العنوان الجديد رداً على اتهامات كون برنامج "كلام الناس" قد انتهى في سنواته الأخيرة "كلام سياسيين". الانطلاقة الجديدة لغانم لمَّحت -ضمنيًا- في أكثر من موضع أنه قد "صار الوقت" لاستعادة "كلام الناس". 

مع انقشاع همروجة الانطلاقة، بانت نسخة مجددة من برامج اجتماعية كانت تبث في بداية الألفية ونهاية القرن الماضي في شاشات لبنانية مختلفة، تتيح المشاركة لممثلي أحزاب وتيارات سياسية في الاستديو للتعبير عن مواقفهم، مع إضافات ديكوراتية وغرافيكية فرضها الانتاج السخي ومرور السنوات العشرين. 

لقد "صار الوقت" ليجلس سياسي الصف الأول، أخيراً، في استديو قبالة جمهور، بعدما كانت تغيب الاتصالات الهاتفية حتى عن مثل هذه الاستضافات في برنامج غانم السابق. الخطوة بالطبع منقوصة، على عادة منظومة الإعلام اللبناني التي تنزل بالمواضيع إلى شعبوية تحذيرية ولكن محافظة في آن. فالحوار بين السياسي والجمهور يديره غانم، ويقتصر على وقت محدود، فيما أغلب وقت البرنامج هو للمحاور وضيوفه وبينهم جورج غانم، شقيق الإعلامي الذي اشتهر بالصياغة الأولى لمقدمات نشرة الأخبار في "أل بي سي". 

الاتجاه الذي يسلكه برنامج غانم منذ بدء انطلاقته، غير مفاجئ. إذ إنَّ نظاماً كالنظام اللبناني، بأذرعه السياسية والمصرفية والإعلانية، في علاقتها التاريخية مع الإعلام التلفزيوني اللبناني، وإعلامي من وزن غانم معروفة علاقاته التي لا يخفيها بالأوساط المصرفية والسياسية، لا يمكن أن ينتج أكثر مما نراه في الشاشة.  

المساحة هي هي، بضحكات غانم وقفشاته المتوقعة، لا تسعفها الغرافيكس ولا الموسيقى المعاد توزيعها. لكن ما هو غريب، تكرار مواظبة ناشطين مستقلين على المشاركة كجمهور، بخطابهم الزاعق الذي يودون منه أن يبدو تغييرياً عبر كشفه "المستور". 

فهل "المستور"، الذي يكرر الناشطون كشفه، مستور بالفعل؟ السؤال في صلب أداء الناشطين الذين يسيطر على خطابهم اكتشاف محدود ومحدَّد ومتأخر للسياسة، ومقاربة إدارية للموضوعات العامة، بخطاب ناشطي غير سياسي يودون عبره استدرار عطف الشعب اللبناني. 

الخطوة تعوزها الذكاء، ويشوبها النكران، وتنقلب كل مرة استدرارًا لدقائق قليلة من منظومة إعلامية معروفة حدودها. والأمر لا يتوقف هنا، بل يكمل مشاركةً لفيديو الناشط الذي فضح ما هو مفضوح في أقل من دقيقتين، في الشبكات الاجتماعية، لينتهي الأمر بأن يبتلع التايملاين الفيديو في ساعات قليلة. تلك بالفعل المدة الزمنية التي يستغرقها خطاب ناشطي ليذوب في تتالي التحديثات اللحظية، قبل أن ينتقل إلى "فضح" جديد.

في دولة فاشلة معلنة، استغرق فيها تأليف حكومة مبالغ في حجمها -كما كل مرة، حتى تحسبها حكومة تجمع وزراء الدولة- زهاء تسعة أشهر، ينحسر الفضح الناشطي ليصير فعل ظهور لا أكثر، متبوعاً بمزايدات اندهاشية تستهجن الصمت من الناس. لا يعترف مثل هذا الخطاب بالصمت أو اللا مبالاة أو السخرية حتى كخيار سياسي، في مواجهة نظام كالنظام اللبناني (والسخرية هنا ليست تنفيسات مهرجي الإعلام اللبناني الأسبوعية)، ولا يدرك حتى مفهوم الخوض اليومي والعيش اللبناني منذ الحرب اللبنانية حتى الآن.

منذ حضوره البيِّن في المجال العام، الذي بلغ مداه مع مظاهرات العام 2015، تلفّ هذا الخطاب إشارات مقلقة في طريقة تعامله مع ما يعتبره مشوِّشًا لـ"مسيرته" و"إنجازاته".

فمقاربات خطابية من نوع "هؤلاء المندسين"، أو محاولات تأخير فضح التحرش بالفتيات في مظاهرات الحراك لأن الأمر "مبالغ فيه" و"مشبوه التوقيت"، أو التباطؤ في فضح ذكورية شخصيات الحراك العامة لأنَّ الوقت ليس ملائمًا، أو الهزء اللاحق (واليومي!)  من خطاب الحركات النسوية عبر اتهامها بالهستيريا، أو العلاقات المتوترة بمجموعات "يسارية" و"اشتراكية"، وصولاً للدفاع عن خطاب فيلم كفرناحوم، ليست تفاصيل عادية يمكن القفز عنها. 

هناك أيضاً ما يفوق كل هذه الإشارات. لا يبدو أنَّ الخطاب الناشطي يعي ديناميات السياسة اللبنانية اليومية بل يختار القفز عنها بتكرار استخدام مصطلح من نوع "الطبقة السياسي". يبشِّر الخطاب بثنائية الشعب/الدولة مع رشات حول سوء مفهوم وتبعات الطائفية، ومع مواجهات جاذبة من نوع الفقر قبالة الفساد، وأشياء عامة حول حرية الإعلام اللبناني. مثل هذه المقاربات مثلًا لا تفهم أنَّ إلغاء الطائفية السياسية قد يصير مطلبًا طائفيًا عدديًا من داخل النظام الطائفي نفسه، أو أنَّ التعدي المنظم على الأملاك البحرية والنهرية يقوم به ليس فقط رجال الأعمال بل الفقراء والطبقة المتوسطة المدعومة بأحزاب وتيارات سياسية. 

في الخلاصة، يختصر الخطاب الناشطي، العيش اليومي، في بلد مثل لبنان، ضمن بُعدٍ واحد ووحيد هو "الآن" قبالة "ما يجب أن يكون عليه الأمر"، في خطاب صوابي أغلبه معاد التدوير، بلا أي نظر للسياق الاجتماعي والسياسي اللبناني.

يمكن مثلًا النظر لكيفية تعامل مع الانتخابات النيابية الأخيرة كتمثل لهذا الخطاب. فإذا كانت الانتخابات البلدية قد حصَّلت خطوة إلى الأمام عبر تجارب في بيروت وخارجها، فإنّ طريقة خوض الانتخابات النيابية بلا أدنى حس سياسي أو حتى تقني حول كيفية إدارة تحالفات انتخابية كانت فاقعة. لقد تم اختصار "الحدث" بـ"عودة المؤسسات الدستورية لعملها"، مصحوبًا بتعويل على اللمسة النسبية للقانون الانتخابي، ولأن التغيير يأتي فقط عبر خوض الانتخابات، فأوثرت المشاركة وانعدم التنسيق. 

باختصار، يرمي هذا الخطاب إلى مقاربة الخارج من الداخل، ويتعفف عن القول أنه يعمل من الداخل وبشكل تقني وموضعي بحت، لكنه لا يتلاءم مع الخطاب الثوري العام الذي يعتمده. ثم إنه بعد ذلك، لا يفهم لِمَ لا يأخذه أحد على محمل الجد. إذ لا يستوعب أنَّ هناك من خاض يومياً في مقارعة هذا النظام في النقابات أو البلديات أو حتى الأحزاب (تقنيو معركة النفايات مثلًا لم يخفوا يومًا انتساباتهم وميولهم السياسية لأحزاب وتيارات). 

وإذ ينتهي ناشط آخر من دق ناقوس الخطر في برنامج غانم، يمرُّ في الشاشة نفسها إعلان لبرنامج آخر عنوانه: "بدا ثورة"، ليتوحد في لحظة الخطابان الإعلامي والناشطي، ويبتلع النظام مجددًا كل شيء، وبسخافة مدهشة، ويصير الناشط أشبه بالشخص السمج الذي يتعامل معه الجميع كمراهق تعوزه الخبرة، ليس إلا.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024